فصل

ومن ذلك: أن الناس في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يأتون المساجد حفاة في الطين وغيره
قال يحيى بن وثاب: قلت لابن عباس: الرجل يتوضأ يخرج إلى المسجد حافيا قال: لا بأس به
وقال كميل بن زياد: رأيت عليا رضي الله عنه يخوض طين المطر ثم دخل السمجد فصلى ولم يغسل رجليه
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يخوضون الماء والطين إلى المسجد فيصلون
وقال يحيى بن وثاب: كانوا يمشون في ماء المطر وينتضح عليهم
رواها سعيد بن منصور في سننه
وقال ابن المنذر: وطىء ابن عمر بمنى وهو حاف في ماء وطين ثم صلى ولم يتوضأ قال: وممن رأى ذلك علقمة والأسود وعبد الله بن مغفل وسعيد بن المسيب والشعبي والإمام أحمد وأبو حنيفة ومالك وأحد الوجهين للشافعية قال: وهو قول عامة أهل العلم ولأن تنجيسها فيه مشقة عظيمة منتفية بالشرع كما في أطعمة الكفار وثيابهم وثياب الفساق شربة المسكر وغيرهم
قال أبو البركات ابن تيمية: وهذا كله يقوي طهارة الأرض بالجفاف لأن الإنسان في العادة لا يزال يشاهد النجاسات في بقعة بقعة من طرقاته التي يكثر فيها تردده إلى سوقه ومسجده وغيرهما فلو لم تطهر إذا أذهب الجفاف أثرها للزمه تجنب ما يشاهده من بقاع النجاسة بعد ذهاب أثرها ولما جاز له التحفي بعد ذلك وقد علم أن السلف الصالح لم يحترزوا من ذلك ويعضده أمره بمسح النعلين بالأرض لمن أتى المسجد ورأى فيهما خبثا ولو تنجست الأرض بذلك نجاسة لا تطهر بالجفاف لأمر بصيانة طريق المسجد عن ذلك لأنه يسلكه الحافي وغيره
قلت: وهذا اختيار شيخنا رحمه الله
وقال أبو قلابة: جفاف الأرض طهورها
فصل

ومن ذلك: أن النبي سئل عن المذي فأمر بالوضوء منه فقال: كيف ترى بما أصاب ثوبي منه قال: تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصابه رواه أحمد والترمذي والنسائي
فجوز نضح ما أصابه المذي كما أمر بنضح بول الغلام
قال شيخنا: وهذا هو الصواب لأن هذه نجاسة يشق الاحتزاز منها لكثرة ما يصيب ثياب الشاب العزب فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام ومن أسفل الخف والحذاء
فصل

ومن ذلك: إجماع المسلمين على ما سنه لهم النبي ص من جواز الاستجمار بالأحجار في زمن الشتاء والصيف مع أن المحل يعرق فينضح على الثوب ولم يأمر بغسله
ومن ذلك: أنه يعفي عن يسير أرواث البغال والحمير والسباع في إحدى الروايتين عن أحمد اختارها شيخنا لمشقة الاحتراز
قال الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعي: فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه كالبغل والحمار والفرس فقال: قد كانوا يبتلون بذلك في مغازيهم فلا يغسلونه من جسد ولا ثوب
ومن ذلك: نص أحمد على أن الودي يعفى عن يسيره كالمذي وكذلك يعفى عن يسير القىء نص عليه أحمد
وقال شيخنا: لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من المدة والقيح والصديد قال: ولم يقم دليل على نجاسته
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طاهر حكاه أبو البركات وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا ينصرف منه من الصلاة وينصرف من الدم وعن الحسن نحوه
وسئل أبو مجلز عن القيح يصيب البدن والثوب فقال: ليس بشيء إنما ذكر الله الدم ولم يذكر القيح
وقال إسحاق بن راهويه: كل ما كان سوى الدم فهو عندي مثل العرق المنتن وشبهه ولا يوجب وضوءا
وسئل أحمد رحمه الله: الدم والقيح عندك سواء فقال: لا الدم لم يختلف الناس فيه والقيح قد اختلف الناس فيه وقال مرة: القيح والصديد والمدة عندي أسهل من الدم
ومن ذلك: ما قاله أبو حنيفة: أنه لو وقع بعر الفأر في حنطة فطحنت أو في دهن مائع جاز أكله ما لم يتغير لأنه لا يمكن صونه عنه قال: فلو وقع في الماء نجسه
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى جواز أكل الحنطة التي أصابها بول الحمير عند الدياس من غير غسل قال: لأن السلف لم يحترزوا من ذلك
وقالت عائشة رضي الله عنهما: كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القدر
وقد أباح الله تعالى صيد الكلب وأطلق ولم يأمر بغسل موضع فمه من الصيد ومعضه ولا تقويره ولا أمر به رسوله ولا أفتى به أحد من الصحابة
ومن ذلك: ما أفتى به عبد الله بن عمر وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وطاوس وسالم ومجاهد والشعبي وابراهيم النخعي والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري والحكم والأوزاعي ومالك واسحق بن راهويه وأبو ثور والإمام أحمد في أصح الروايتين وغيرهم أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة لم يكن عالما بها أو كان يعلمها لكنه نسيها أو لم ينسها لكنه عجز عن إزالتها: أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه
فصل

ومن ذلك: أن النبي: ص كان يصلي وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها متفق عليه
ولأبي داود: أن ذلك كان في إحدى صلاتي العشي
وهو دليل على جواز الصلاة في ثياب المربية والمرضع والحائض والصبي ما لم يتحقق نجاستها
وقال أبو هريرة: كنا مع النبي ص في صلاة العشاء فلما سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فلما رفع رأسه أخذهما بيديه من خلفه أخذا رفيقا ووضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى قضى صلاته رواه الامام أحمد
وقال شداد بن الهاد: عن أبيه خرج علينا رسول الله ص وهو حامل الحسن أو الحسين فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها فلما قضى الصلاة قال: إن ابني ارتحلني فكرهت أن اعجله ورواه أحمد والنسائي
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ص يصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه رواه أبو داود
وقالت: كنت أنا ورسول الله ص نبيت في الشعار الواحد وأنا طامث حائض فإن أصابه منى شىء غسل مكانه ولم يعده وصلى فيه رواه أبو داود
فصل

ومن ذلك: أن النبي كان يلبس الثياب التي نسجها المشركون ويصلي فيها
وتقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهمه أن ينهى عن ثياب بلغه أنها تصبغ بالبول وقال أبي له: مالك أن تنهى عنها فإن رسول الله لبسها ولبست في زمانه ولو علم الله أنها حرام لبينه لرسوله قال: صدقت
قلت: وعلى قياس ذلك: الجوخ بل أولى بعدم النجاسة من هذه الثياب فتجنبه من باب الوسواس ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية استعار ثوبا من نصراني فلبسه حتى خاطوا له قميصه وغسلوه وتوضأ من جرة نصرانية
وصلى سلمان وأبو الدرداء رضي الله عنهما في بيت نصرانية فقال لها أبو الدرداء: هل في بيتك مكان طاهر فنصلي فيه فقالت: طهرا قلوبكما ثم صليا أين أحببتما فقال له سلمان: خذها من غير فقيه
فصل

ومن ذلك: أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض والأواني المكشوفة ولا يسألون: هل أصابتها نجاسة أو وردها كلب أو سبع ففي الموطأ عن يحيى بن سعيد: أن عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع فقال عمر رضي الله عنه: لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا
وفي سنن ابن ماجه أن رسول الله سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال: نعم وبما أفضلت السباع
ومن ذلك: أنه لو سقط عليه شىء من ميزاب لا يدري هل هو ماء أو بول لم يجب عليه أن يسأل عنه فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجيبه ولم علم أنه نجس ولا يجب عليه غسل ذلك
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما فسقط عليه شىء من ميزاب ومعه صاحب له فقال: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس فقال عمر رضي الله عنه: يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ومضى ذكره أحمد
قال شيخنا: وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شىء رطب ولا يعلم ما هو لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو واحتج بقصة عمر رضي الله عنه في الميزاب وهذا هو الفقه فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها وقبل ذلك هي على العفو فما عفا الله عنه فلا ينبغي البحث عنه
فصل

ومن ذلك: الصلاة مع يسير الدم ولا يعيد قال البخاري: قال الحسن رحمه الله: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم
قال: وعصر ابن عمر رضي الله عنه بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ وبصق ابن أبي أوفى دما ومضى في صلاته وصلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثعب دما
ومن ذلك أن المراضع ما زلن من عهد رسول الله ص وإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها فلا يغسلن شيئا من ذلك ولأن ريق الرضيع مطهر لفمه لأجل الحاجة كما أن ريق الهرة مطهر لفمها
وقد قال رسول الله ص إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات وكان يصغي لها الإناء حتى تشرب وكذلك فعل أبو قتادة مع العلم اليقيني أنها تأكل الفأر والحشرات والعلم القطعي أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردها السنانير وكلاهما معلوم قطعا
ومن ذلك: أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم وقد أصابها الدم وكانوا يمسحونها ويجتزئون بذلك
وعلى قياس هذا مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة فإنه يطهرها
وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها
ومن ذلك: أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس ثم تجففه الشمس فينشر عليه الثوب الطاهر فقال: لا بأس به وهذا كقول أبي حنيفة: إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس وهو وجه لأصحاب أحمد حتى إنه يجوز التيمم بها وحديث ابن عمر رضي الله عنهما كالنص في ذلك وهو قوله كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك
وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس
ومن ذلك: أن الذي دلت عليه سنة رسول الله ص وآثار أصحابه: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن كان يسيرا
وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف وأكثر أهل الحديث وبه أفتى عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد والأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الرحمن بن مهدي واختاره ابن المنذر وبه قال أهل الظاهر ونص عليه أحمد في إحدى روايتيه واختاره جماعة من أصحابنا منهم ابن عقيل في مفرداته وشيخنا أبو العباس وشيخه ابن أبي عمر
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله ص الماء لا ينجسه شىء رواه الإمام أحمد وفي المسند والسنن عن أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال: الماء طهور لا ينجسه شىء قال الترمذي: هذا حديث حسن وقال الإمام أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح
وفي لفظ للإمام أحمد: إنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها محايض النساء ولحم الكلاب وعذر الناس فقال رسول الله ص إن الماء طهور لا ينجسه شىء