وأما من حلف على يمين ثم نسيها وقولهم: يلزمه جميع ما يحلف به فقول شاذ جدا وليس عن مالك إنما قاله بعض أصحابه وسائر أهل العلم على خلافه وأنه لا يلزمه شيء حتى يتيقن كما لو شك: هل حلف أو لا
فإن قيل فينبغي أن يلزمه كفارة يمين لأنها الأقل
قيل: موجب الأيمان مختلف فما من يمين إلا وهي مشكوك فيها هل حلف بها أم لا
وعلى قول شيخنا: يلزمه كفارة يمين حسب لأن ذلك موجب الأيمان كلها عنده
فصل

وأما من حلف ليفعلن كذا ولم يعين وقتا فعند الجمهور هو على التراخي إلى آخر عمره إلا أن يعين بنيته وقتا فيتقيد به فإن عزم على الترك بالكلية حنث حال ه زمه نص عليه أحمد وقال مالك: هو على حنث حتى يفعل فيحال بينه وبين امرأته إلى أن يأتي بالمحلوف عليه وهذا صحيح على أصله في سد الذرائع فإنه إذا كان على التراخي إلى وقت الموت لم يكن لليمين فائدة وصار لا فرق بين الحلف وعدمه والحمل في ذلك على القرينة والعرف إن لم تكن نية ولا يكاد اليمين يتجرد عن هذه الثلاثة
فصل

وأما تعليق الطلاق بوقت يجىء لا محالة كرأس الشهر والسنة وآخر النهار ونحوه فللفقهاء في ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنها لا تطلق بحال وهذا مذهب ابن حزم واختيار أبي عبد الرحمن الشافعي وهو من أجل أصحاب الوجوه
وحجتهم: أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط كما لا يقبله النكاح والبيع والإجارة والإبراء
قالوا: والطلاق لا يقع في الحال ولا عند مجىء الوقت أما في الحال فلأنه لم يوقعه منجزا وأما عند مجىء الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذ ولم يتجدد سوى مجىء الزمان ومجى الزمان لا يكون طلاقا
وقابل هذا القول آخرون وقالوا: يقع الطلاق في الحال وهذا مذهب مالك وجماعة من التابعين
وحجتهم: أن قالوا: لو لم يقع في الحال لحصل منه استباحة وطء مؤقت وذلك غير جائز في الشرع لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مطلقا غير مؤقت ولهذا حرم نكاح المتعة لدخول الأجل فيه وكذلك وطء المكاتبة ألا ترى أنه لوعرى من الأجل بأن يقول: إن جئتني بألف درهم فأنت حرة لم يمنع ذلك الوطء
قال الموقعون عند الأجل: لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء فإن الشريعة فرقت بينهما في مواضع كثيرة فإن ابتداء عقد النكاح في الإحرام فاسد دون دوامه وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه وابتداء عقده على الأمة مع الطول وعدم خوف العنت فاسد دون دوامه وابتداء عقده على الزانية فاسد عند أحمد ومن وافقه دون دوامه ونظائر ذلك كثيرة جدا
قالوا: والمعنى الذي حرم لأجله نكاح المتعة: كون العقد مؤقتا من أصله وهذا العقد مطلق وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه فلا يبطل كما لو علق الطلاق بشرط وهو يعلم أنها تفعله أو يفعله هو ولا بد ولكن يجوز تخلفه
والقول الثالث: أنه إن كان الطلاق المعلق بمجيء الوقت المعلوم ثلاثا وقع في الحال وإن كان رجعيا لم يقع قبل مجيئه وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد نص عليه في رواية مهنا: إذا قال: أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر: هي طالق الساعة كان سعيد ابن المسيب والزهري لا يوقتون في الطلاق قال مهنا: فقلت له: أفتتزوج هذه التي قال لها: أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر قال لا: ولكن يمسك عن الوطء أبدا حتى يموت هذا لفظه
وهو في غاية الإشكال فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجزا فكيف يمنعها من التزويح
وقوله: يمسك عن الوطء أبدا يدل على أنها زوجته إلا أنه لا يطؤها وهذا لا يكون مع وقوع الطلاق فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها فقد يقال: أخذ بالاحتياط فأوقع الطلاق ومنعها من التزويج للخلاف في ذلك فحرم وطأها وهو أثر الطلاق ومنعها من التزويج لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص
ووجه هذا: أنه إذا كان الطلاق ثلاثا لم يحل وطؤها بعد الأجل فيصير حال الوطء مؤقتا وإن كان رجعيا جاز له وطؤها بعد الأجل فلا يصير الحال مؤقتا وهذا أفقه من القول الأول
والقول الرابع: أنها لا تطلق إلا عند مجىء الأجل وهو قول الجمهور وإنما تنازعوا هل هو مطلق في الحال ومجىء الوقت شرط لنفوذ الطلاق كما لو وكله في الحال وقال: لاتتصرف إلى رأس الشهر فمجىء رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه لا لحصول الوكالة بخلاف ما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك ولهذا يفرق الشافعي بينهما فيصحح الأولى ويبطل الثانية أو يقال: ليس مطلقا في الحال وإنما هو مطلق عند مجىء الأجل فيقدر حينئذ أنه قال: أنت طالق فيكون حصول الشرط وتقدير حصول: أنت طالق معا فعلى التقدير الأول: السبب تقدم وتأخر شرط تأثيره وعلى التقدير الثاني: نفس السبب تأخر تقديرا إلى مجىء الوقت وكأنه قال: إذا جاء رأس الشهر فحينئذ أنا قائل لك: أنت طالق فإذا جأء رأس الشهر قدر قائلا لذلك اللفظ المتقدم
فمذهب الحنفية: أن الشرط يمتنع به وجود العلة فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير وجودها مضافا إلى الشرط وقبل تحققه لم يكن المعلق عليه علة بخلاف الوجوب فإنه ثابت قبل مجىء الشرط فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق فالعلة للوقوع: التلفظ بالطلاق والشرط الدخول وتأثيره في امتناع وجود العلة قبله فإذا وجد وجدت
وأصحاب الشافعي يقولون: أثر الشرط في تراخي الحكم والعلة قد وجدت وإنما تراخي تأثيرها إلى وقت مجيء الشرط فالمتقدم علة قد تأخر تأثيرها إلى مجىء الشرط
فصل

وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم النخعي ومالك في إحدى الروايتين عنه: أن من شك هل انتقض وضوءه أم لا وجب عليه أن يتوضأ احتياطا ولا يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها
فهذه مسألة نزاع بين الفقهاء
وقد قال الجمهور منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابهم ومالك في الرواية الأخرى عنه إنه لا يجب عليه الوضوء وله أن يصلي بذلك الوضوء الذي تيقنه وشك في انتقاضه واحتجوا بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وهذا يعم المصلي وغيره
وأصحاب القول الأول يقولون: الصلاة ثابتة في ذمته بيقين وهو يشك في براءة الذمة منها بهذا الوضوء فإنه على تقدير بقائه هي صحيحة وعلى تقدير انتقاضه باطلة فلم يتيقن براءة ذمته ولأنه شك في شرط الصلاة: هل هو باق أم لا فلا يدخل فيها بالشك
والآخرون يجيبون عن هذا بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك في بطلانها فلا يلتفت إلى الشك ولا يزيل اليقين به كما لو شك: هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة فإنه لا يجب عليه غسله وقد دخل في الصلاة بالشك
ففرقوا بينهما بفرقين:
أحدهما: أن اجتناب النجاسة ليس بشرط ولهذا لا يجب نيته وإنما هو مانع والأصل عدمه بخلاف الوضوء فإنه شرط وقد شك في ثبوته فأين هذا من هذا
الثاني: أنه قد كان قبل الوضوء محدثا وهو الأصل فيه فإذا شك في بقائه كان ذلك رجوعا إلى الأصل وليس الأصل فيه النجاسة حتى نقول: إذا شك في حصوله رجعنا إلى الأصل النجاسة فهنا يرجع إلى أصل الطهارة وهناك يرجع إلى أصل الحدث
قال الآخرون: أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة فصارت هي الأصل فإذا شككنا في الحدث رجعنا إليه فأين هذا من الوسواس المذموم شرعا وعقلا وعرفا
فصل

وأما قولكم: إن من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله: فليس هذا من باب الوسواس وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه ولا يعلمه بعينه ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه
فصل

وأما مسألة الثياب التي اشتبه الطاهر منها بالنجس فهذه مسألة نزاع فذهب مالك في رواية عنه وأحمد: إلى أنه يصلي في ثوب بعد ثوب حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر
وقال الجمهور ومنهم أبو حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى إنه يتحرى فيصلي في واحد منها صلاة واحدة كما يتحرى في القبلة
وقال المزني وأبو ثور: بل يصلي عريانا ولا يصلي في شيء منها لأن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم والصلاة فيه حرام وقد عجز عن السترة بثوب طاهر فسقط فرض السترة وهذا أضعف الأقوال
والقول بالتحري هو الراجح الظاهر سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قل وهو اختيار شيخنا وابن عقيل يفصل فيقول: إن كثر عدد الثياب تحرى دفعا للمشقة وإن قل عمل باليقين
قال شيخنا: اجتناب النجاسة من باب المحظور فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه لم يحكم ببطلان صلاته بالشك فإن الأصل عدم النجاسة وقد شك فيها في هذا الثوب فيصلي فيه كما لو استعار ثوبا أو اشتراه ولا يعلم حاله
وقول أبي ثور في غاية الفساد فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيرا وأحب إلى الله من صلاته متجردا بادى السوءة للناظرين وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم
فصل

وأما مسألة اشتباه الأواني فكذلك ليست من باب الوسواس وقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا متباينا
فقال أحمد: يتيمم ويتركها وقال مرة يريقها ويتيمم ليكون عادما للماء الطهور بيقين
وقال أبو حنيفة: إن كان عدد الأواني الطاهرة أكثر تحرى وإن تساوت أو كثرت النجسة لم يتحر وهذا اختيار أبي بكر وابن شاقلا والنجاد من أصحاب أحمد وقال الشافعي وبعض المالكية: يتحرى بكل حال وقال عبد الله بن الماجشون: يتوضأ بكل واحد منها وضوءا ويصلي وقال محمد بن مسلمة من المالكية: يتوضأ من أحدها ويصلي ثم يغسل ما أصابه منه ثم يتوضأ من الآخر ويصلي
وقالت طائفة منهم شيخنا يتوضأ من أيها شاء بناء على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فتستحيل المسألة وليس هذا موضع ذكر حجج هذه الأقوال وترجيح راجحها