وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله ص وقصده: من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها ومنها: اتخاذها عيدا ومنها: السفر إليها ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها: من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها وعبادها يرجعحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيتمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها ومنها: النذر لها ولسدنتها ومنها: اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الاعداء ويستنزل غيث السماء وتفرج الكروب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى عند قبره وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى: ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا [ الفرقان: 17 ] قال الله للمشركين: فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا [ الفرقان: 19 ] الآية وقال تعالى: وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ سبأ: 41 ]
ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها ومنها: محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكثير والإثم العظيم ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى مالا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وأخربوا المساجد
ومنها: أن الذي شرعه الرسول ص عند زيارة القبور: إنما هو تذكرالآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركات منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت
ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله ص ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك التي شرعها لهم الشيطان واختر لنفسك
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ص كلما كان ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد رواه مسلم
وفي صحيحه عنها أيضا: أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون
وفي صحيحه أيضا عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله ص يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وعن بريدة قال: قال رسول الله ص كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا رواه أحمد والنسائي
وكان رسول الله ص قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرا فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولا وفعلا
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص زوروا القبور فإنها تذكر الموت
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله ص قال: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مر رسول الله بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وحسنه وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة رواه ابن ماجه
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله ص لأمته وعلمهم إياها هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي ص ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا
فقال سلمة بن وردان: رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي ص ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو
ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة
وفي الترمذي وغيره مرفوعا الدعاء هو العبادة
فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم
وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبا واستحبابا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي
قال عوف بن مالك: صلى رسول الله على جنارة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله ص على ذلك الميت رواه مسلم
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله ص يقول في صلاته على الجنازة: اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر له رواه الامام أحمد
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ص قال: إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء
وقالت عائشة وأنس عن النبي ص: ما من ميت يصليعليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه رواه مسلم