فصل

الاسم الرابع: الباطل والباطل: ضد الحق يراد به المعدوم الذي لا وجود له والموجود الذي مضرة وجوده أكثر من منفعته
فمن الأول: قول الموحد: كل إله سوى الله باطل ومن الثاني قوله: السحر باطل والكفر باطل قال تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ الإسراء: 81 ]
فالباطل إما معدوم لا وجود له وإما موجود لا نفع له فالكفر والفسوق والعصيان والسحر والغناء واستماع الملاهي: كله من النوع الثاني
قال ابن وهب: أخبرني سليمان بن بلال عن كثير بن زيد: أنه سمع عبيدالله يقول للقاسم بن محمد: كيف ترى في الغناء فقال له القاسم: هو باطل فقال: قد عرفت أنه باطل فكيف ترى فيه فقال القاسم: أرأيت الباطل أين هو قال: في النار قال: فهو ذاك
وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام فقال: لا أقول حراما إلا ما في كتاب الله فقال: أفحلال هو فقال: ولا أقول ذلك ثم قال له: أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء فقال الرجل: يكون مع الباطل فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك
فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط والتشبيب بالأجنبيات وأصوات المعازف والآلات المطربات فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته
فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعة بإباحته فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع والميتة على المذكاة والتحليل الملعون فاعله على النكاح الذي هو سنة رسول الله وهو أفضل من التخلي لنوافل العبادة فلو كان نكاح التحليل جائزا في الشرع لكان أفضل من قيام الليل وصيام التطوع فضلا أن يلعن فاعله
فصل

وأما اسم المكاء والتصدية فقال تعالى عن الكفار: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية.
قال ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة: المكاء: الصفير والتصدية: التصفيق
وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير يقال: مكا يمكو مكاء إذا جمع يديه ثم صفر فيهما ومنه: مكت است الدابة إذا خرجت منها الريح بصوت ولهذا جاء على بناء الأصوات كالرغاء والعواء والثغاء قال ابن السكيت: الأصوات كلها مضمومة إلا حرفين: النداء والغناء
وأما التصدية: فهي في اللغة: التصفيق يقال: صدى يصدى تصدية إذا صفق بيديه قال حسان بن ثابت يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم:
إذا قام الملائكة انبعثتم... صلاتكم التصدي والمكاء
وهكذا الأشباه يكون المسلمون في الصلوات الفرض والتطوع وهم في الصفير والتصفيق
قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة ويصفرون ويصفقون
وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي في الطواف ويصفرون ويصفقون يخلطون عليه طوافه وصلاته ونحوه عن مقاتل
ولا ريب أنهم كانوا يفعلون هذا وهذا
فالمتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق أشباه النوع الأول وإخوانهم المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه النوع الثاني
قال ابن عرفة وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها: المكاء والتصدية فألزمهم ذلك عظيم الأوزار وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة
والمقصود: أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء ولو أنه مجرد الشبه الظاهر فلهم قسط من الذم بحسب تشبههم بهم وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح لئلا يتشبهوا بالنساء فكيف إذا فعلوه لا لحاجة وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا وفعلا
فصل

وأما تسميته رقية الزنى فهو اسم موافق لمسماه ولفظ مطابق لمعناه فليس في رقى الزنى أنجع منه وهذه التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض قال ابن أبي الدنيا: أخبرنا الحسين بن عبد الرحمن قال: قال فضيل بن عياض: الغناء رقية الزنى
قال: وأخبرنا إبراهيم بن محمد المروزي عن أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنى
قال: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال: نزل الحطيئة برجل من العرب ومعه ابنته مليكة فلما جنه الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني فقال: وما تكره من ذلك فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور ولا أحب أن تسمعه هذه يعني ابنته فإن كففته والإ خرجت عنك ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن قال: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك فسمع غناء من الليل فأرسل إليهم بكرة فجىء بهم فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة وإن التيس لينب فتستحرم له العنز وأن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة ثم قال: اخصوهم فقال عمر بن عبد العزيز: هذه المثلة ولا تحل فخل سبيلهم قال: فخلى سبيلهم
قال: وأخبرنا الحسين بن عبد الرحمن قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: جاور الحطيئة قوما من بني كلب فمشى ذو الدين منهم بعضهم إلى بعض وقالوا: يا قوم إنكم قد رميتم بداهية هذا الرجل شاعر والشاعر يظن فيحقق ولا يستأني فيتثبت ولا يأخذ الفضل فيعفو فأتوه وهو في فناء خبائه فقالوا: يا أبا مليكة إنه قد عظم حقك علينا يتخطيك القبائل إلينا وقد أتيناك لنسألك عما تحب فنأتيه وعما تكره فنزدجر عنه فقال: جنبوني ندي مجلسكم ولا تسمعوني أغاني شبيبتكم فإن الغناء رقية الزنى فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء وأن تصل رقيته إلى حرمته فما الظن بغيره ولا ريب أن كل غيور يجنعب أهله سماع الغناء كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى فهم أعلم بالإثم الذي يستحقه
ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء فحينئذ تعطي الليان
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت ومن جهة معناه ولهذا قال النبي لانجشة حادية: يا أنجشة رويدك رفقا بالقوارير يعني النساء
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان أو الصبايا وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا وكم جرع من غصة وأزال من نعمة وجلب من نقمة وذلك منه من إحدى العطايا وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة
فسل ذا خبرة ينبيك عنه... لتعلم كم خبايا في الزوايا
وحاذر إن شغفت به سهاما... مريشة بأهداب المنايا
إذا ما خالطت قلبا كئيبا... تمزق بين أطباق الرزايا
ويصبح بعد أن قد كان حرا... عفيف الفرج: عبدا للصبايا
ويعطي من به يغني غناء... وذلك منه من شر العطايا
فصل

وأما تسميته: منبت النفاق فقال علي بن الجعد: حدثنا محمد بن طلحة عن سعيد بن كعب المروزي عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع
وقال شعبة: حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذمع الملاهي
قال: أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمي بن عمارة حدثنا سلام بن مسكين حدثنا شيع عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل
وقد تابع حرمي بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مسلم بن إبراهيم
قال أبو الحسين بن المنادي في كتاب أحكام الملاهي: حدثنا محمد بن علي بن عبد الله ابن حمدان المعروف بحمدان الوراق حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين فذكر الحديث فمداره على هذا الشيخ المجهول وفي رفعه نظر والموقوف أصح
فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي
قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى وقام كل جهول يطبب الناس