ومن مكايده التي بلغ فيها مراده مكيدة التحليل الذي لعن رسول الله ص فاعله وشبهه بالتيس المستعار وعظم بسببه العار والشنار وعير المسلمين به الكفار وحصل بسببه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد واستكريت له التيوس المستعارات وضاقت بها ذرعا النفوس الأبيات ونفرت منه أشد من نفارها من السفاح وقالت لو كان هذا نكاحا صحيحا لم يلعن رسول الله ص من أتى بما شرعه من النكاح فالنكاح سنته وفاعل السنة مقرب غير ملعون والمحلل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون فقد سماه رسول الله ص بالتيس المستعار وسماه السلف بمسمار النار فلو شاهدت الحرائر المصونات على حوانيت المحللين متبذلات تنظر المرأة إلى التيس نظر الشاة إلى شفرة الجازر وتقول يا ليتني قبل هذا كنت من أهل المقابر حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت نهض واستتبعها خلفه للوقت بلا زفاف ولا إعلان بل بالتخفي والكتمان فلا جهاز ينقل ولا فراش إلى بيت الزوج يحول ولا صواحب يهدينا إليه ولا مصلحات يجلينها عليه ولا مهر مقبوض ولا مؤخر ولا نفقة ولا كسوة تقدر ولا وليمة ولا نثار ولا دف ولا إعلان ولا شغار والزوج يبذل المهر وهذا التيس يطأ بالأجر حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب والمطلق والولي واقفان على الباب دنا ليطهرها بمائة النجس الحرام ويطيبها بلعنة الله ورسوله ص حتى إذا قضيا عرس التحليل ولم يحصل بينهما المودة والرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل فإنها لا تحصل باللعن الصريح ولا يوجبها إلا النكاح الجائز الصحيح فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفا وتعجيلا وإلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلا فهل سمعتم زوجا لا يأخذ بالساق حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والإتفاق حتى إذا طهرها وطيبها وخلصها بزعمه من الحرام وجنبها قال لها اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والإتفاق فتأتي المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها هل كان ذاك فلا يمكنها الجحود فيأخذون منها أو من المطلق أجرا وقد أرهقوهما من أمرهما عسرا هذا وكثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم وابنتها في عقدين ويجمع ماءه في أكثر من أربع وفي رحم أختين وإذا كان هذا من شأنه وصفته فهو حقيق بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال لعن رسول الله ص المحلل والمحلل له رواه الحاكم في الصحيح والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال والعمل عليه عند أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء من التابعين
ورواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه بإسناد صحيح ولفظها لعن رسول الله ص الواشمة والمؤتشمة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوى الصدقة والمعتدى فيها والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد ص يوم القيامة
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي محمد ص أنه لعن المحلل والمحلل له رواه الإمام أحمد وأهل السنن كلهم غير النسائي
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ص لعن الله المحلل والمحلل له رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات وثقهم ابن معين وغيره
وقال الترمذي في كتاب العلل سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال هو حديث حسن وعبد الله بن جعفر المخزومي صدوق ثقة وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة
وقال أبو عبد الله بن ماجه في سننه حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله ص المحلل والمحلل له
وعن ابن عباس أيضا قال سئل رسول الله ص عن المحلل فقال لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم تذوق العسيلة رواه أبو إسحق الجوزجاني في كتاب المترجم قال أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن حصين عن عكرمة عنه وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم فإن كثيرا من الحفاظ يضعفه والشافعي حسن الرأي فيه ويحتج بحديثه
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صص ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له رواه ابن ماجة بإسناد رجاله كلهم موثقون لم يجرح واحد منهم
وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين أنه سئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له فقال لا ثم ذكر أن النبي ص سئل عن مثل ذلك فقال لا حتى ينكح مرتغبا لنفسه فإذا فعل ذلك لم يحل له حتى يذوق العسيلة ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف بإسناد جيد
وهذا المرسل قد احتج به من أرسله فدل على ثبوته عنده وقد عمل به أصحاب رسول الله ص كما سيأتي وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة ومثل هذا حجة باتفاق الأئمة وهو والذي قبله نص في التحليل المنوي وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال له امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم قال لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله سفاحا ذكره شيخ الإسلام في إبطال التحليل
فصل

وأما الآثار عن الصحابة ففي كتاب المصنف لابن أبي شيبة وسنن الأثرم والأوسط لابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر لا أوتى بمحلل ولا محللة إلا رجمتهما وهو صحيح عن عمر
وقال عبد الرزاق عن معمر والزهري عن عبد الملك بن المغيرة قال سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن تحليل المرأة لزوجها فقال ذاك السفاح ورواه ابن أبي شيبة
وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عبد الله بن شريك العامري سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عن رجل طلق ابنة عم له ثم رغب فيها وندم فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له فقال ابن عمر رضي الله عنهما كلاهما زان وإن مكث عشرين سنة أو نحو ذلك إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له
قال وأخبرنا معمر عن الثوري عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس رضي الله عنهما وسأله رجل فقال إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا قال كيف ترى في رجل يحللها قال من يخادع الله يخدعه
وعن سليمان بن يسار قال رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وقال لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة رواه أبو إسحق الجوزجاني في كتاب المترجم وذكره ابن المنذر عنه في كتاب الأوسط
وفي المهذب لأبي إسحق الشيرازي عن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان رضي الله عنه فقال إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها فقال له عثمان رضي الله عنه لا تنكحها إلا نكاح رغبة
وذكر أبو بكر الطرطوشي في خلافه عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله وعلي رضي الله عنه هو ممن روى عن النبي ص أنه لعن المحلل فقد جعل هذا من التحليل
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن الله المحلل والمحلل له وهو ممن روى عن النبي ص لعن المحلل وقد فسره بما قصد به التحليل وإن لم تعلم به المرأة فكيف بما اتفقا عليه وتراضيا وتعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة
وذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لعن الله المحلل والمحلل له
وروى الجوزجاني بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها فقال لعن الله الحال والمحلل له
قال شيخ الإسلام وهذه الآثار عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره ولم يتواطآ عليه فهي مبينة أن هذا هو التحليل وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله ص فإن أصحاب رسول الله ص أعلم بمراده ومقصوده لا سيما إذا رووا حديثا وفسروه بما يوافق الظاهر هذا مع أنه لم يعلم أن أحدا من أصحاب رسول الله ص فرق بين تحليل وتحليل ولا رخص في شيء من أنواعه مع أن المطلقة
ثلاثا مثل امرأة رفاعة القرظي قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة وإلى خلفائه لتعود إلى زوجها فيمنعونها من ذلك ولو كان التحليل جائزا لدلها رسول الله ص على ذلك فإنها لم تكن تعدم من يحللها لو كان التحليل جائزا
قال والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل وإن لم يشترط في العقد كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها انتهى