فصل

وسبب هذا كله: معصية الله ورسوله وطاعة الشيطان في إيقاع الطلاق على غير الوجه الذي شرعه الله والله سبحانه يبغض الطلاق في الأصل كما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص ما بال قوم يلعبون بحدود الله يقول: قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ص إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة يجىء أحدهم فيقول: قد فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئا قال: ويجىء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيدنيه منه أو قال: فيلتزمه ويقول: نعم أنت أنت
فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق والتفريق بين المرء وزوجه وكثيرا ما يندم المطلق ولا يصبر عن امرأته ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رغبة تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها أو يفارقها إذا قضى وطره ولا بد له من المرأة فيهرع إلى التحليل وهو حيلة من عشر حيل نصبوها للناس
إحداها: التحيل على عدم وقوع الطلاق وهو نوعان تحيل على عدم وقوعه مع صحة النكاح بالتسريح فيأمرونه أن يقول لها: إذا طلقتك أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا لا مطلقا ولا مقيدا عند المسرحين فسدوا باب الطلاق وجعلوا المرأة كالغل في عنق الزوج لا سبيل له إلى طلاقها أبدا
الحيلة الثانية: التحيل على عدم وقوع الطلاق بكون النكاح فاسدا فلا يقع فيه الطلاق ويتحيلون لبيان فساده من وجوه:
منها: أن عدالة الولى شرط في صحته فإذا كان في الولي ما يقدح في عدالته فالنكاح باطل فلا يقع فيه الطلاق والقوادح كثيرة فلا تكاد تفتش فيمن شئت إلا وجدت فيه قادحا
ومنها: أن عدالة الشهود شرط والشاهد يفسق بجلوسه على مقعد حرير أو استناده إلى مسند حرير أو جلوسه تحت حركاة حرير أو تجمره بمجمرة فضة ونحو ذلك مما لا يكاد يخلو البيت منه وقت العقد ونحو ذلك
فيا للعجب ! يكون الوطء حلالا والنسب لاحقا والنكاح صحيحا حتى يقع الطلاق فحينئذ يطلب وجوه إفساده
الحيلة الثالثة: التحيل بالمخالعة حتى يفعل المحلوف عليه فإذا فعله تزوجها بعقد جديد
الحيلة الرابعة: إذا وقع الفأس في الرأس وحنث ولا بد اشترى غلاما دون البلوغ وزوجه بها وأمرها أن تمكنه من إيلاج الحشفة هناك فإذا فعل وهبها إياه فانفسخ نكاحها بملكه فتعتد وترد إلى المطلق فإن عجزوا عن ذلك وأعوزهم انتقلوا إلى:
الحيلة الخامسة: وهي استكراء التيس الملعون المستعار لينزو عليها ويحلها بزعمه فهذه خمس حيل للخاصة
وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيل على ردها إلى المطلق بأي طريق اتفق قالوا: المقصود هو الرجوع والحيلة مقصودة لغيرها وأعيان الحيل ليست مقصودة فاستنبطوا لهم خمس حيل أخرى
أحداها: أن يأمروا المحلل بأن يطأها برجله فيطؤها وهي قاعدة أو مضطجعة برجله ثم يخرج ورأوا أن الوطء بالرجل أسهل عليهم وأقل مفسدة من الوطء بالآلة فإنه إذا كان كلاهما غير مقصود فما كان أقل فسادا كان أقرب إلى المقصود
الحيلة الثانية: أن تكون حاملا فتلد ذكرا وكأنهم قاسوا الذكر الذي شقها خارجا على الذكر الذي يشقها داخلا وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود
الحيلة الثانية: أن يصب المحلل عليها دهنا يشربه جسدها ولا يطؤها وكأنهم قاسوا تشرب جسدها للدهن وسريانه فيه على شربه للنطفة وسريانها فيه
الحيلة الرابعة: السفر عنها أو سفرها عنه فإذا قدم ظن أن ذلك كاف عن الزوج ولا أدري من أين ألقى إليهم الشيطان ذلك وكأنهم ظنوا أنهم قد التقوا من الآن وأن السفر قطع حكم ما مضى رأسا
الحيلة الخامسة: أن يجتمعا على عرفات فإذا وقف بها على الجبل لم يحتج بعد ذلك إلى زوج آخر عندهم وقد سئلنا نحن وغيرنا عن ذلك وسمعناه منهم
فصل

واعلم أن من اتقى الله في طلاقه فطلق كما أمره الله ورسوله وشرعه له أغناه عن ذلك كله ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع: ومن يتق الله يجعل له مخرجا. فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال والمكر والاحتيال فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهرا من غير جماع ويطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها وإن لم يراجعها حتى انتقضت عدتها أمكنه أن يستقبل العقد عليها من غير زوج آخر وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره فمن فعل هذا لم يندم ولم يحتج إلى حيلة ولا تحليل
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وفارقت امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا
وقال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفا فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك وبقيتهن وزر اتخذت آيات الله هزوا
وقال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى طننت أنه رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال: ومن يتق الله يجعل له مخرجا. وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك ذكره أبو داود
وقد روى النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله ص عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله
وهذه الآثار موافقة لما دل عليه القرآن فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ولم يشرعه جملة واحدة أصلا قال تعالى: الطلاق مرتان. والمرتان في لغة العرب بل وسائر لغات الناس: إنما تكون لما يأتي مرة بعد مرة فهذا القرآن من أوله إلى آخره وسنة رسول الله ص وكلام العرب قاطبة شاهد بذلك كقوله تعالى: سنعذبهم مرتين [ التوبة: 101 ] وقوله: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين [ التوبة: 126 ] وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات [ النور: 53 ] ثم فسرها بالأوقات الثلاثة وشواهد هذا أكثر من أن تحصى
ثم قال سبحانه: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة: 230 ] فهذه هي المرة الثالثة فهذا هو الطلاق الذي شرعه الله سبحانه وتعالى مرة بعد مرة بعد مرة فهذا شرعه من حيث العدد
وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدة وقد فسره النبي ص بأن يطلقها طاهرا من غير جماع فلم يشرع جمع ثلاث ولا تطليقتين ولم يشرع الطلاق في حيض ولا في طهر وطئها فيه وكان المطلق في زمن رسول الله ص كله وزمن أبي بكر كله وصدرا من خلافه عمر رضي الله عنهما إذا طلق ثلاثا يحسب له واحدة وفي ذلك حديثان صحيحان أحدهما رواه مسلم في صحيحه والثاني رواه الإمام أحمد في مسنده
فأما حديث مسلم: فرواه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ص وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم
وفي صحيحه أيضا عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هنياتك: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ص وأبي بكر واحدة فقال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم
وفي لفظ لأبي داود: أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال أجروهن عليهم هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها وبها أخذ إسحق بن راهويه وخلق من السلف جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها قبل الدخول ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئا
وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثة نفر: طاوس وهو أجل من روى عنه وأبو الصهباء العدوى وأبو الجوزاء وحديثه عند الحاكم في المستدرك ولفظه: أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله عليه السلام إلى واحدة قال: نعم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه
ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس فأجابه ابن عباس بما سأله عنه ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل الدخول فسأل عن ذلك ابن عباس وقال: كانوا يجعلونها واحدة فقال له ابن عباس نعم أي الأمر على ما قلت
وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال ومثل هذا لا يعتبر مفهومه
نعم لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسئول الجواب كان مفهومه معتبرا وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة
وبالجملة: فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين
وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما
وأما الحديث الآخر: فقال أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانه وإخوته أم ركانه ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي فقالت: ما يغني ععني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا يشبه منه كذا وكذا قالوا نعم: فقال الني طلقها ففعل فقال: راجع امرأتك أم ركانة فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال: قد علمت راجعها وتلا: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة [ الطلاق: 1 ] الآية
فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثا وتلا الآية التي هي وما بعدها صريحة في كون الطلاق الذي شرعه الله لعباده وهو الطلاق الذي يكون للعدة فإذا شارفت انقضاءها فإما أن يمسكها بمعروف أو يفارقها بمعروف وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسعة والتيسير فلعل المطلق أن يندم فيكون له سبيل إلى الرجعة وهو قوله تعالى: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ الطلاق: 1 ] فأمره بالمراجعة وتلاوته الآية كاف في الاستدلال على ما كان عليه الحال
فإن قيل: فهذا الحديث فيه مجهول وهو بعض بني أبي رافع والمجهول لا تقوم به حجة
فالجواب من ثلاثة أوجه: