وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر
فقالوا: هو حديث مضطرب لا يصح ولذلك أعرض عنه البخاري وترجم في صحيحه على خلافه فقال باب فيمن جوز الطلاق الثلاث في كلمة لقوله تعالى الطلاق مرتان
ثم ذكر حديث اللعان وفيه فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله ولم يغير عليه النبي وهو لا يقر على باطل
قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروى عن طاوس عن ابن عباس وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند
وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة فهذا يخالف اللفظ الآخر
وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته وكيف يتهيأ القدح في صحته ورواته كلهم أئمة حفاظ حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاوس وحدث به ابن طاوس عن أبيه وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن وطاوس من أخص أصحاب ابن عباس ومذهبه: أن الثلاث واحدة وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس فلم ينفرد به عبد الرزاق ولا ابن جريج ولا عبد الله بن طاوس فالحديث من أصح الأحاديث وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه: الجامع المختصر الصحيح ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم
وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة وهو الظاهر فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء فإنه كان سيء الحفظ والحفاظ قالوا: أبو الصهباء وهذا لا يوهن الحديث
وهذه الطريق عند الحاكم في المستدرك
وأما رواية من رواه مقيدا قبل الدخول فإنه تقدم أنها لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه فإن تعارضا فهذه الرواية أولى وإن لم يتعارضا فالأمر واضح
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صريح في كون الثلاث واحدة في حق المدخول بها
وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء: أن قوله قبل الدخول زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى
وحينئذ فيدل أحد حديثى ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا فأحد الحديثين يقوى الآخر ويشهد بصحته وبالله التوفيق
وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله، فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله إلا ابن عباس وحده ولاعن ابن عباس إلا طاوس وحده قالوا: فأين أكابر الصحابة وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم الذي الحاجة إليه شديدة جدا فكيف خفي هذا على جميع الصحابة وعرفه ابن عباس وحده وخفي على أصحاب ابن عباس كلهم وعلمه طاوس وحده
وهذا أفسد من جميع ما تقدم ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل وإنما يحكي عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء
قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة لم يروها غيره وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده
هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ركانة وهو موافق لحديث طاوس عنه فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض فإن الناس احتجوا بعكرمة وصحح أئمة الحفاظ حديثه ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه
فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول الله
قيل: ليس هذا هو الشاذ وإنما الشذوذ: أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذا وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده ولا مسوغا له
قال الشافعي رحمه الله: وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به
ثم إن هذا القول لا يمكن احدا من أهل العلم ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم
والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد
ولما رأى بعضهم ضعف هذه المسالك وأنها لا تجدي شيئا استروح إلى تأويله فقال: معنى الحديث: أن الناس كانوا يطلقون على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر واحدة ولا يوقعون الثلاث فلما كان في أثناء خلافة عمر رضي الله عنه أوقعوا الثلاث وأكثروا من ذلك فأمضاه عليهم عمر رضي الله عنه كما أوقعوه فقوله: كانت الثلاث على عهد رسول الله واحدة أي في حق التطليق وإيقاع المطلقين لا في حكم الشرع
قال هذا القائل: وهذا من أقوى ما يجاب به وبه يزول كل إشكال
ولعمر الله لو سكت هذا كان خيرا له وأستر فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل في الحديث وسياقه يبيعن بطلانه بيانا ظاهرا لا إشكال فيه وكأن قائله أحب الترويج على قوم ضعفاء العلم مخلدين إلى حضيض التقليد فروج عليهم مثل هذا وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث ولم يعن بطرقه فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبي الصهباء لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر رضي الله عنه وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه فأقر ابن عباس بذلك وقال نعم
وأيضا فقول هذا المتأول: إنهم كانوا يطلقون على عهد رسول الله واحدة فقد نقضه هو بعينه وأبطله حيث احتج على وقوع الثلاث بحديث الملاعن وحديث محمود بن لبيد أن رجلا طلق امرأته على عهد رسول الله ص ثلاثا فغضب النبي ص وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ثم زاد هذا القائل في الحديث زيادة من عنده فقال وأمضاه عليه ولم يرده
وهذه اللفظة موضوعة لا تروى في شيء من طرق هذا الحديث ألبتة وليست في شيء من كتب الحديث وإنما هي من كيس هذا القائل حمله عليها فرط التقليد ومحمود بن لبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك من إمضاء أو رد إلى واحدة
والمقصود: أن هذا القائل تناقض وتأول الحديث تأويلا يعلم بطلانه من سياقه ومن بعض ألفاظه أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر يرد إلى الواحدة وهذا موافق للفظ الآخر كان إذا طلق امرأته ثلاثا جعلوها واحدة وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى يفسر بعضها بعضا، فجعل هذا وأمثاله المحكم متشابها والواضح مشكلا
كيف يصنع بقوله فلو أمضيناه عليهم فإن هذا يدل على أنه رأي من عمر رضي الله عنه رأى أن يمضيه عليهم لتتايعهم فيه وسدهم على أنفسهم ما وسعه الله عليهم وجمعهم ما فرقه وتطليقهم على غير الوجه الذي شرعه وتعديهم حدوده ومن كمال علمه رضي الله عنه: أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه وراعى حدوده وهؤلاء لم يتقوه في الطلاق ولا راعوا حدوده فلا يستحقون المخرج الذي ضمنه لمن اتقاه
ولو كان الثلاث تقع ثلاثا على عهد رسول الله ص وهو دينه الذي بعثه الله تعالى به لم يضف عمر رضي الله عنه إمضاءه إلى نفسه ولا كان يصح هذا القول منه وهو بمنزلة أن يقول في الزنى وقتل النفس وقذف المحصنات: لو حرمناه عليهم فحرمه عليهم وبمنزلة أن يقول في وجوب الظهر والعصر ووجوب صوم شهر رمضان والغسل من الجنابة: لو فرضناه عليهم ففرضه عليهم
فدعوى هذه التأويلات المستكرهة التي كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرة في المسألة وقوي جانبها عنده فإنه يرى أن الحديث لا يرد بمثل هذه الأشياء
قد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في سننه في الحديث مسلكا آخر وقوي جانبها عنده فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة ثم ساقه فقال: حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله ص وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال: نعم وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه بل الترجمة لون والحديث لون آخر وكأنه لما أشكل عليه لفظ الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق أنت طالق طلقت واحدة ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله ص وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه ويمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة
وسلك آخرون في الحديث مسلكا آخر وقالوا: هذا الحديث يخالف أصول الشرع فلا يلتفت إليه
قالوا: لأن الله سبحانه ملك الزوج ثلاث تطليقات وجعل إيقاعها إليه فإن قلنا بقول الشافعي ومن وافقه أن جمع الثلاث جائز فقد فعل ما أبيح له فيصح وإن قلنا: جمع الثلاث حرام وهو طلاق بدعي فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فسحة له فإذا جمعها فقد جمع ما فسح له في تفريقه فلزمه حكمه كما لو فرقه
قالوا: وهذا كما أنه يملك تفريق المطلقات وجمعهن فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه فهذا قياس الأصول فلا نبطله بخبر الواحد
قال الآخرون: هذا القياس لا يصلح أن يثبت به هذا الحكم لو لم يعارض بنص فضلا عن أن يقدم على النص وهو قياس مخالف لأصول الشرع ولغة العرب وسنة رسول الله ص وعمل الصحابة في عهد الصديق
فأما مخالفته لأصول الشرع فإن الله سبحانه إنما ملك المطلق بعد الدخول طلاقا بملك فيه الرجعة ويكون مخيرا فيه بين الإمساك بالمعروف وبين التسريح بالإحسان ما لم يكن بعوض أو يستوفي فيه العدد والقرآن قد بين ذلك كله فبين أن الطلاق قبل الدخول تبين به المرأة ولا عدة عليها وبين أن المفتدية تملك نفسها ولا رجعة لزوجها عليها وبين أن المطلقة الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها تبين منه وتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وبين أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزوج فيه الرجعة وهو مخير بين الإمسك بالمعروف والتسريح بإحسان
وهذا كتاب الله تعالى قد تضمن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها وجعل سبحانه وتعالى أحكامها من لوازمها التي لا تنفك عنها فلا يجوز ان تتغير أحكامها البتة فكما لا يجور في الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرجعة وتجب به العدة ولا في الطلقة المسبوقة بطلقتين أن يثبت فيها الرجعة وأن تباح بغير زوج وإصابة ولا في طلاق الفدية أن تثبت فيه الرجعة فكذلك لا يجوز في النوع الآخر من الطلاق ان يتغير حكمه فيقع على وجه لا تثبت فيه الرجعة فإنه مخالف لحكم الله تعالى الذي حكم به فيه وهذا صفة لازمة له فلا يكون على خلافها البتة
ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة إلا الطلاق قبل الدخول وطلاق الخلع والطلقة الثالثة فبيننا وبينكم كتاب الله فإن كان فيه شيء غير هذا فأوجدونا إياه
ومما يوضح ذلك: أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعي في تجويزه جمع الثلاث بالقرآن وقالوا: ما شرع الله سبحانه جمع الطلاق الثلاث وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة ما لم يستوف العدد
واحتجوا عليه بقوله تعالى الطلاق مرتان. قالوا: ولا يعقل في لغة من لغات الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب: 31 ] وقوله ص ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين