فصل

فاستروح بعضهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك لما تبين له فسادها
فقال هذا حديث واحد والأحاديث الكثيرة عن رسول الله ص دالة على خلافه وذكروا أحاديث
منها ما في الصحيحين عن فاطمة بنت قيس أن أبا حفص بن المغيرة طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فجاءت رسول الله ص فذكرت له ذلك فقال ليس لك عليه نفقة
وقد جاء تفسير هذه ألبتة في الحديث الآخر الصحيح أنه طلقها ثلاثا فلم يجعل لها النبي ص سكنى ولا نفقة فقد أجاز عليه الثلاث وأسقط بذلك نفقتها وسكناها
وفي المسند أن هذه الثلاث كانت جميعا فروى من حديث الشعبي أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي ص لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة فقال مالك ولابنة قيس قال يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثا جميعا وذكر الحديث
ومنها ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل النبي أتحل للأول قال لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول
ووجه الدليل أنه لم يستفصل هل طلقها ثلاثا مجموعة أو متفرقة ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال
ومنها ما اعتمد عليه الشافعي في قصة الملاعنة أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله ص فقال يا رسول الله رأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله ص قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله ص
فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله ص قال الزهري وكانت تلك سنة المتلاعنين متفق على صحته
قال الشافعي فقد أقره رسول الله ص على الطلاق ثلاثا ولو كان حراما لما أقره عليه
ومنها ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله ص عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله ولم يقل إنه لم يقع عليه إلا واحدة بل الظاهر أنه أجازها عليه إذ لو كانت ولم يقع عليه إلا واحدة لبين له ذلك لأنه إنما طلقها ثلاثا يعتقد لزومها فلو لم يلزمه لقال له هي زوجتك بعد وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجة عن ركانة أنه طلق امرأته ألبتة فأتى رسول الله ص فقال ما أردت قال واحدة قال آلله ما أردت بها إلا واحدة قال آلله ما أردت بها إلا واحدة ورواه الترمذي وفيه فقال يا رسول الله إني طلقت امرأتي ألبتة فقال ما أردت بها فقلت واحدة قال والله قلت والله قال فهو ما أردت قال أبو دواد وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وقال ابن ماجة سمعت أبا الحسن علي بن محمد الطنافسي يقول ما أشرف هذا الحديث قال أبو عبد الله بن ماجه: أبو عبيد تركه ناجية وأحمد جبن عنه
ووجه الدلالة: أنه حلفه ما أراد بها إلا واحدة وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك ولو كانت واحدة مطلقا لم يفترق الحال بين أن يريد واحدة أو أكثر وإذا كان هذا في الكناية فكيف بالطلاق الصريح إذا صرح فيه بالثلاث
ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث حماد بن زيد: حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله ص يقول: يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيدالله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: طلق بعض آبائي امرأته ألبتة فانطلق بنوه إلى رسول الله ص فقالوا: يا رسول الله إن أبانا طلق امرأته ألفا فهل له من مخرج فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه: بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه
ومنها: ما رواه الدارقطني أيضا من حديث زاذان عن علي رضي الله عنه قال: سمع النبي ص رجلا طلق ألبتة فغضب وقال: أتتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا ولعبا من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث الحسن البصري قال: حدثنا عبد الله بن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين فبلغ ذلك رسول الله ص فقال: يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق عند ذلك أو أمسك فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها قال: لا كانت تبين منك وتكون معصية
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي عن حماد بن زيد قال: قلت لأيوب: هل علمت أحدا قال في أمرك بيدك إنها ثلاث غير الحسن قال: لا ثم قال: اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ثلاث فلقيت كثيرا فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال: نسي رواه الترمذي وقال: لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد وحسبك بسليمان بن حرب وحماد بن زيد ثقتين ثبتين
ومنها: ما رواه البيهقي من حديث سويد بن غفلة عن الحسن أنه طلق عائشة الخثعمية ثلاثا ثم قال: لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره: لراجعتها رواه من حديث محمد بن حميد: حدثنا سلمة بن الفضل عن عمر بن أبي قيس عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد وهذا مرفوع قالوا: فهذه الأحاديث أكثر وأشهر وعامتها أصح من حديث أبي الصهباء وحديث ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس فيجب تقديمها عليه ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد فإنه يقدم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض وإن كان الحديث الفرد متأخرا كما قدم في إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بريدة لكونها كثيرة متعددة وحديث بريدة في إباحتها فرد وهو متأخر فانه قال: كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم غير أن لا تشربوا مسكرا مع أنه حديث صحيح رواه مسلم ولا يعرف له علة
فصل

قال الآخرون: هذه الأحاديث التي ذكرتموها ولم تدعوا بعدها شيئا هي بين أحاديث صحيحة لا مطعن فيها ولا حجة فيها وبين أحاديث صريحة الدلالة ولكنها باطلة أو ضعيفة لا يصح شىء منها
ونحن نذكر ما فيها ليتبين الصواب ويزول الإشكال
أما حديث فاطمة بنت قيس: فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسئلة قد خالفوه ولم يأخذوا به فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وأما الشافعي ومالك فأوجبوا لها السكنى والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم وإن لم يكن محفوظا بل هو غلط كما قال بعض المتقدمين فليس حجة علينا في جمع الثلاث فأما أن يكون حجة على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل هذا مع أنا نتنزل عن هذا المقام ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المحتج به ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ثم طلقها آخر الثلاث هكذا جاء مصرحا به في الصحيح فروى مسلم في صحيحه عن عبيدالله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها: والله مالك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبي ص فذكرت له قولهما فقال: لا نفقة لك وساق الحديث بطوله
فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله طلقها ثلاثا
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس: أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات وساق الحديث ذكره أبو داود ثم قال: وكذلك رواه صالح بن كسيان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة كلهم عن الزهري ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيدالله قال: أرسل مروان إلى فاطمة فسألها فأخبرته: أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان النبي ص أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن فخرج معه زوجها فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها وذكر الحديث بتمامه والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى
فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس قالوا: ونحن أخذنا به جميعه ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معرض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار
وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ طلقها ثلاثا وطلقها البتة وطلقها آخر ثلاث تطليقات وأرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها وطلقها ثلاثا جميعا