فصل

وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات وسد الذرائع عكس ذلك فبين البابين أعظم تناقض والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه فنهى الله تعالى عن سبع آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا على وجه المقابلة
وأخبر النبي أن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: وهل يشتم الرجل والديه قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
ولما جاءت صفية رضي الله تعالى عنها تزوره وهو معتكف قام معها ليوصلها إلى بيتها فرآهما رجلان من الأنصار فقال: على رسلكما إنها صفية بنت حييي فقالا: سبحان الله ! يا رسول الله فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا
فسد الذريعة إلى ظنهما السوء بإعلامهما أنها صفية
وأمسك عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه
وحرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها
وحرم إمساكها للتخليل وجعلها نجسة لئلأ تفضي مقاربتها بوجه من الوجوه إلى شربها
ونهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها حسما للمادة وسدا للذريعة
وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها والنظر إليها لغير حاجة حسما للمادة وسدا للذريعة
ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور
ومنعهن من التسبيح في الصلاة لنائبة تنوب بل جعل لهن التصفيق
ومنع المعتدة من الوفاة من الزينة والطيبب والحلي
ومنع الرجل من التصريح بخطبتها في العدة وإن كان إنما يعقد النكاح بعد انقضائها
ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها حتى كأنه ينظر إليها
ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله
ونهى عن تعلية القبور وتشريفها وأمر بتسويتها
ونهى عن البناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها وعندها وإيقاد المصابيح عليها كل ذلك سدا لذريعة اتخاذها أوثانا وهذا كله حرام على من قصده ومن لم يقصده بل على من قصد خلافه سدا للذريعة
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لكون هذين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس ففي الصلاة نوع تشبه بهم في الظاهر وذلك ذريعة إلى الموافقة والمشابهة في الباطن وكذلك النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس مبالغة في هذا المقصود وحماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك بكل ممكن
ومنع من التفرق في الصرف قبل التقابض وكذلك الربوي إذا بيع بربوي آخر من غير جنسه سدا لذريعة النساء الذي هو صلب الربا ومعظمه بل من منع بيع الدرهم
بالدرهمين نقداد سدا لذريعة ربا النساء كما علل بذلك في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وهذا أحسن العلل في تحريم ربا الفضل
وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى والتوسل إلى ذلك أو الإجارة كما هو الواقع
ومنع البائع أن يشتري السلعة من مشتريها بأقل مما اشتراها به وهي مسألة العينة وإن لم يقصد الربا لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقدا
وحرم جمع الشرطين في البيع لكونه وسيلة إلى ذلك وهو منطبق على مسألة العينة
ومنع من القرض الذي يجر النفع وجعله ربا
ومنع المقرض من قبول هدية المقترض ما لم يكن بينهما عادةجارية بذلك قبل القرض ففي سنن ابن ماجة عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال: قال رسول الله إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبنها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك
وروى البخاري في تاريخه عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية
وفي صحيح البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حقفأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا
وروى سعيد بن منصور في سننه هذا المعنى عن أبي بن كعب
وجاء عن ابن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمروونحوه
وكل ذلك سدا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل
ونهى عن بيع الكالىء بالكالىء وهو الدين المؤخر بالدين المؤخر لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة فلو كان الدينان حالين لم يمتنع لأنهما يسقطان جيعا من ذمتهما وفي الصورة المنهي عنها: ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كل واحد منهما في مقابلة تأجيله وهذه مفسدة ربا النساء بعينها
ونهى الله سبحانه النساء أن: يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. فلما كان الضرب بالرجل ذريعة إلى ظهور صوت الخلخال الذي هو ذريعة إلى ميل الرجال إليهن نهاهن عنه
وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغض أبصارهم لما كان النظر ذريعة إلى الميل والمحبة التي هي ذريعة إلى مواقعة المحظور
وحرم التجارة في الخمر وإن كان إنما يبيعها من كافر يستحل شربها فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها ولهذا لما نزلت الآيات في تحريم الربا قرأها عليهم رسول الله وقرن بها تحريم التجارة في الخمر فإن الربا ذريعة إلى إفساد الأموال والخمر ذريعة إلى إفساد العقول: فجمع بين تحريم التجارة في هذا وهذا
ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين لئلا يتخذ ذريعة إلى الزيادة في الصوم الواجب كما فعل أهل الكتاب
ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة فأنه إذا أشبه الهدي الهدي أشبه القلب القلب وقد قال خالف هدينا هدي الكفار وفي المسند مرفوعا: من تشبه بقوم فهو منهم
وحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم وبهذه العلة بعينها علل رسول الله فقال: إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم
وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح ولا تنبغي الشهادة عليه وأمر فاعله برده ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة ظاهرة قريبة جدا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم كما هو المشاهد عيانا فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضي تحريمه
ومنع من نكاح الأمة لكونه ذريعة ظاهرة إلى استرقاق ولده ثم جوز وطأها بملك اليمين لزوال هذه المفسدة