وقال حماد عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال: أن لي معك حقا فقال: لا فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله واعن مسجد حيكوذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلا كان يصيب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام فقال الرجل: أف أف وسلمت بغلته وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها
وقال الأعمش عن إبراهيم: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه فيسأله عنه فقال: قل: والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيء يعني بـ(ما) الذي
وقال عقبة بن المغيرة: كنا نأتي إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سئلتم عني وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لنا به علم ولا في أي موضع هو واعنوا أنكم لا تدرون أي موضع أنا فيه قائم أو قاعد وقد صدقتم
وجاءه رجل فقال: إني اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها ويريدون أن يحلفوني أنها الدابة التي اعترضت عليها فقال: اركبها واعترض عليها على بطنك راكبا ثم احلف أنها الدابة التي اعترضت عليها
وقال أبو عوانة عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاقبه في جارية له وبيده مروحة فقال: أشهدكم أنها لها فلما خرجنا قال: علام شهدتم قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبي: من حلف على يمين لا يستثنى فالبر والإثم فيها على علمه قلت: ما تقول في الحيل قال: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق لرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يموهه أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال: ضرسي ضرسي
ووجه الرشيد إلى شريك رجلا ليحضره فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره ففعل فحبسه الرشيد ثم أرسل إليه رسولا آخر فأحضره وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول في اليوم الذي أرسله فيه وعنى بذلك الرسول الثاني فصدقه وأمر بإطلاق الرجل وأحضر الثوري إلى مجلس المهدي فأراد أن يقوم فمنع فحلف بالله أنه يعود فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله
قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل
فأبعد الناس عن القول بها مالك وأحمد وقد سئل أحمد عن المروزي وهو عنده ولم يرد أن يخرج إلى السائل فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال: ليس المروزي ههنا وماذا يصنع المروزي ههنا !
وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق: ليطأن امرأته في نهار رمضان فقال: يسافر بها ويطؤها في السفر
وقال صاحب المستوعب: وجدت بخط شيخنا أبي حكيم: حكى أن رجلا سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر في رمضان فقال له: اذهب إلى بشر بن الوليد فاسأله ثم ائتني فأخبرني فذهب فسأله فقال له بشر إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر فإذا كان وقت السحر فكل واحتج بقول النبي هلم إلى الغداء المبارك فاستحسنه أحمد
قالوا: وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه بإظهار أنه سارق ووضع الصواع في رحله ولم يكن كذلك حقيقة لكن أظهر ذلك توصلا إلى أخذ أخيه وجعله عنده وأخبر الله سبحانه أن ذلك كيد كاده سبحانه ليوسف ليأخذ أخاه ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذي رفع به درجات من يشاء وأن الناس متفاوتون فيه ففوق كلع ذي علم عليم
فصل
قال منكرو الحيل: الحيل ثلاثة أنواع:
نوع هو قربة وطاعة وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى
ونوع هو جائز مباح لا حرج على فاعله ولا على تاركه وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته
ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله متضمن لإسقاط ما أوجبه وإبطال ما شرعه وتحليل ما حرمه وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع فإن الحيلة لا تذم مطلقا ولا تحمد مطلقا ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة
وأخص من هذا: تخصيصها بما يذم من ذلك وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل فإن أهل العرف لهم تصرف في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه
فإن الحيلة فعلة من الحول وهو التصرف من حال إلى حال وهي من ذوات الواو وأصلها حولة فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فقلبت ياء كميزان وميقات وميعاد
قال في المحكم: الحول والحيل والحول والحولة والحيلة والحويل والمحالة والمحال والاحتيال والتحول والتحيل: كل ذلك: الحذق وجودة النظر والقدرة على وجه التصرف قال: والحول والحيل والحيلات: جمع حيلة ورجل حول وحولة وحول وحولة وحوالي وحوالي وحولول وحولي: شديد الاحتيال وما أحوله وأحيله وهو أحول منك وأحيل انتهى
فالحيلة: فعلة من الحول وهو التحول من حال إلى حال وكل من حاول أمرا يريد فعله أو الخلاص منه فما يحاول به: حيلة يتوصل بها إليه
فالحيلة: معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقا ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية فإن كان المقصود أمرا حسنا كانت الحيلة حسنة وإن كان قبيحا كانت الحيلة قبيحة وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك وإن كانت معصية وفسوقا كانت الحيلة عليه كذلك
ولما قال النبي لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت: يقصد بها الحيل التي تستحل بها المحارم كحيل اليهود وكل حيلة تتضمن إسقاط حقي لله تعالى أو لآدمي فهي مما يستحل بها المحارم
ونظير ذلك لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم فإن كان بحق فهو محمود وإن كان بباطل فهو مذموم
ومن النوع المحمود: قوله الحرب خدعة وقوله في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال: رجل كذب على امرأته ليرضيها ورجل كذب بين اثنين ليصلح بينهما ورجل كذب في خدعة حرب ومن النوع المذموم: قوله في حديث عياض بن حمار الذي رواه مسلم في صحيحه: أهل النار خمسة ذكر منهم رجلا لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك
وقوله تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. وقوله تعالى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله.
ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشرف وأبي رافع، عدوَّي رسول الله حتى قتلا وقتل خالد بن سفيان الهذلي
ومن أحسن ذلك: خديعة معبد بن أبي معبد الخزاعي لأبي سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين وردهم من فورهم
ومن ذلك: خديعة نعيم بن مسعود الأشجعي ليهود بني قريظة ولكفار قريش والأحزاب حتى ألقى الخلف بينهم وكان سبب تفرقهم ورجوعهم ونظائر ذلك كثيرة
وكذلك المكر ينقسم إلى محمود ومذموم فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده
فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم وجزاء لهم بجنس عملهم قال تعالى: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. وقال تعالى: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون.
وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين قال تعالى: وأملي لهم إن كيدي متين. وقال تعالى: كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله. وقال تعالى: إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا.
فصل
إذا عرف ذلك فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يظهر قولا أو فعلا مقصوده به مقصود صالح وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية مثل دفع الظلم عن نفسه أو غيره أو إبطال حيلة محرمة
وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله تعالى ورسوله له فيصير مخادعا لله تعالى ورسوله كائدا لدينه ماكرا بشرعه فإن مقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة
وهذا ضد الذي قبله فإن ذلك مقصوده التوصل إلى إظهار دين الله تعالى ودفع معصيته وإبطال الظلم وإزالة المنكر فهذا لون وذاك لون آخر
ومثال ذلك: التأويل في اليمين فإنه نوعان: نوع لا ينفعه ولا يخلصه من الإثم وذلك إذا كان الحق عليه فجحده ثم حلف على إنكاره متأولا فإن تأويله لا يسقط عنه إثم اليمين الغموس والنية للمستحلف في ذلك باتفاق المسلمين بل لو تأول من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين
وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله ويخلصه من الإثم وتكون اليمين على نيته فإذا استحلفه ظالم بأيمان البيعة أو أيمان المسلمين فتأول الأيمان بجمع يمين وهي اليد أو حلفه بأن كل امرأة له طالق فتأول أنها طالق من وثاق أو طالق عند الولادة أو طالق من غيري ونحو ذلك
أو استحلفه بأن كل مملوك له حر أو عتيق فتأول أنه عتيق أو كريم من قولهم: فرس عتيق
أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظهر أمه فتأول ظهر أمه بمركوبها فإن ضيق عليه وألزمه أن يقول: إنه مظاهر من امرأته تأول بأنه قد ظاهر بين ثوبين أو جبتين من عند امرأته
وإن استحلفه بالحرام تأول أن الحرام الذي حرمه الله تعالى عليه يلزمه تحريمه فإن ضيق عليه بأن يلزمه أن يقول: الحرام يلزمني من زوجتي أو أن تكون علي حراما قيد ذلك بنية: إذا أحرمت أو صامت أو قامت إلى الصلاة ونحو ذلك
وإن استحلفه بأن كل ماله أو كل ما يملكه صدقة تأول بأنه صدقة من الله سبحانه وتعالى عليه
وإن قال له: قل: وأن جميع ما أملكه: من دار وعقار وضيعة وقف على المساكين تأول الفعل المضارع بما يملكه في المستقبل بعد كذا وكذا سنة
فإن ضيق عليه وقال قل: جميع ما هو جار في ملكي الآن نوى إضافة الملك إلى الآن لا إلى نفسه والآن لا يملك شيئا فإن قال: مما هو في ملكي في هذا الوقت يكون وقفا أخرج معنى لفظ الوقف عن المعهود إلى معنى آخر والعرب تسمي سواء العاج وقفا
وإن استحلفه بالمشي إلى بيت الله نوى مسجدا من مساجد المسلمين
فإن قال قل: علي الحج إلى بيت الله نوى بالحج القصد إلى المسجد فإن قال: إلى البيت العتيق نوى المسجد القديم فإن قال: البيت الحرام نوى الحرام هدمه واتخاذه دارا أو حماما ونحو ذلك
وإن استحلفه بالأمانة نوى بها الوديعة أو اللقطة ونحو ذلك
وإن استحلفه بصوم سنة نوى بالصوم الإمساك عن كلام يمكنه الإمساك عنه سنة أو دائما
هذا كله في المحلوف به وأما المحلوف عليه فيجري هذا المجرى
فإذا استحلفه: ما رأيت فلانا نوى ما ضربت رئته أو ما كلمته نوى ما جرحته أو ما عاشرته ولا خالطته نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسرية أو ما بايعته ولا شاريته نوى بذلك ما بايعته بيعة اليمين ولا شاريته من المشاراة وهي اللجاج أو الغضب تقول: شري على مثال علم إذا لج واستشاط غضبا
وإن استحلفه لصك أنه لا يدل عليه ولا يعلم به ولا يخبر به أحدا نوى أنه لا يفعل ذلك ما دام معه وإن ضيق عليه وقال: ما عاش أو ما بقي أو ما دام في هذه البلدة نوى قطع الظرف عما قبله وأن لا يكون متعلقا به أو نوى بما: الذي أي لا أدل عليك الذي عاش أو بقي بعد أخذك
وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته نوى وطأها برجله
وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة نوى أن لا يتزوجها نكاحا فاسدا
وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا أو لا يشتريه أو لا يؤجره ونحو ذلك
وكذلك إذا استحلفه أن لا يدخل هذه الدار أو البلد أو المحلة قيد الدخول بنوع معين بالنية
وكذلك لو استحلفه: أنك لا تعلم أين فلان نوى مكانه الخاص من داره أو بلده أو سوقه
ولو استحلفه: أنه ليس عنده في داره نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار فإن ضيق عليه وقال: الآن نوى أنه ليس حاضرا معه الآن وقد بر وصدق
وإن استحلفه ليس لي به علم نوى أنه ليس لي علم بسره وما ينطوي عليه وما يضمره أو ليس لي علم به على جهة التفصيل فإن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وحده
فصل
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 15 (0 من الأعضاء و 15 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)