وقد جاء تأخير الشرط في القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار كقوله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم.
وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له علي ألف درهم إذا جاء رأس الشهر: أنه يصح وجها واحدا وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار وعلى هذا فلو قال: له علي ألف مؤجلة صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلا
وقيل: القول قول خصمه في حلوله وشبهة هذا: أنه مقر بالدين مدع لتأجيله وهذا ظاهر البطلان فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقا كما لو وصفها بنقد غير النقد الغالب أو استثنى منها شيئا
وكذا لو قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه أو أجرة عن دار لم أتسلمها أو قال: هلك قبل التمكن من قبضة على أصح الوجهين لأنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقا
وكذا لو قال: كان له علي ألف فقضيته لم يلزمه لأنه إنما أقر به في الماضي لا في الآن هذا منصوص أحمد وليس الكلام بمتناقض في نفسه فيكون بمنزلة قوله: له علي ألف لا تلزمني والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان
وعن أحمد رواية أخرى: أنه مقر بالحق مدع لقضائه فلا يقبل منه إلا ببينة وهذا قول الأئمة الثلاثة
وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح فيطالب برد الجواب وعلى هذا فإذا قال: له علي ألف قضيته إياه ففيه ثلاث روايات منصوصات
إحداهن: أنه غير مقر كما لو قال: كان له علي والثانية: أنه مقر مدع للقضاء فلا يقبل منه إلا ببينة والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء ولو أقام به بينة بل يكون مكذبا لها وعلى هذا إذا قال: كان له علي ولم يزد على هذا فهو مقر وخرج أنه غير مقر من نصه على أنه إذا قال: كان له علي وقضيته: أنه غير مقر وهو تخريج في غاية الصحة فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله: وقضيته فإن هذا دعوى منه للقضاء وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضي لا عن الحال فلا يلزم بكونه في ذمته في الحال وهو لم يقر به
والمقصود: أن المدعى عليه إذا كان مظلوما فالحيلة في تخصله أن يقول: إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا فأنا غير مقر به وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به كان جوابا صحيحا ولم يكن مقرا على الإطلاق
المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه بل يجبر على تسليمه إلى المشتري ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا في المبتدىء بالتسليم جعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما وإن كان دينا أجبر البائع على التسليم ثم يجبر المشتري على دفع الثمن فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه في ماله كله حتى يسلم الثمن وإن كان غائبا عن البلد فوق مسافة القصر ثبت للبائع الفسخ وإن كان دونها فهل يحجر عليه أو يثبت للبائع الفسخ على وجهين وإن كان المشتري معسرا فللبائع الفسخ والرجوع في عين ماله هذا منصوص أحمد والشافعي وللشافعية وجه أنه تباع السلعة ويقضي دينه من ثمنها فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شيء استقر في ذمته والصحيح: أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن حتى يقبضه هذا هو موجب العدل وإلا ففي تمكين المشتري من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعاما أو شرابا فيستهلكه ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه
وعلى هذا لو دفع الثمن إلا درهما منه فله حبس المبيع كله على باقي الثمن كما نقول في الرهن
وفيه قول آخر: أنه يملك أنه يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن لأن كل جزء من المبيع في مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن فإذا سلم بعض الثمن ملك تسلم ما يقابله
والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض من الدين وإنما هو وثيقة فملك حبسه إلى أن يستوفي جميع الدين والأول هو الصحيح لأنه إنما رضي بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن ولم يرض بإخراجه ولا إخراج شيء منه ببعض الثمن
فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم ثم يحال على تقاضي المشتري
فالحيلة له في الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها ويجوز شرط الرهن والضمين في عقد البيع ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه في أصح الوجهين كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه ومن غير البائع بل رهنه على ثمنه أولى فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى
وأيضا فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبي قبل القبض فجوازه من البائع أولى لأن المشتري يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها ما لا يملكه مع الأجنبي ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن أو من الأجنبي
فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قبل القبض عرضة للتلف فيكون من ضمان البائع وكونه رهنا يقتضي أن يكون من ضمان راهنه فتنافى الأمران حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة وهذا بخلاف رهنه من أجنبي قبل القبض فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبي ومضمونا له من البائع ولا تنافي بين أن يكون مضمونا له من شخص ومضمونا عليه لغيره كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثاني ومضمونة له من المؤجر الأول وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشتري بيعها وهي مضمونة له على البائع ومضمونة عليه للمشتري الثاني
فإن قيل: هذا هو الفرق الذي بني عليه هذا القول ولكن يقال: أي محذور في ذلك وأن يكون مضمونا له وعليه وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة ليس كذلك فإنه مضمون له من جهة كونه مشتريا فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه ومضمون عليه من جهة كونه راهنا فإذا تلف تلف من ضمانه حتى لو اتحدت الجهة لم يكن في ذلك محذور بحيث يكون مضومنا له وعليه من جهة واحدة كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره فتكون المنافع مضمونة عليه وله فأي محذور في ذلك
فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن فمن ضمان من يكون فالبائع يقول للمشتري: تلف من ضمانك لأنه رهن والمشتري يقول: تلف من ضمانك لأنه مبيع لم يقبض وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر قيل: بل يكون تلفه من ضمان البائع لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه كما لو حبسه من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم فإنه إنما احتاط لنفسه بعقد الرهن والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن في مقابلته فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذي أخذه في مقابلة الرهن
فإن أراد الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة وأن لا يعرضه للبطلان
فالحيلة له: أن يقبضه من البائع ثم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه فيصح الرهن ولا يتوالى هناك ضمانان فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشتري ولا يسقط الثمن عنه فإن خاف البائع أن يغيب المشتري أو يؤخر فكاك الرهن كتب كتابا وأشهد فيه شهودا: أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له في بيعه وقبض دينه من ثمنه وما بقى منه فهو أمانة في يده
فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط كتب في الكتاب: أنه قد وكله الآن ويعلعق تصرفه فيه بالبيع بمجىء الوقت فيعلق التصرف وينجز التوكيل
فإن خاف أن يعزله الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه فالحيلة له: أن يوكله وكالة دورية عند من يرى ذلك فيقول: وكلما عزلته فقد وكلته وإن شاء أن يقول: وكلته وكالة لا تقبل العزل وإن شاء أن يقول: على أني متى عزلته فلا حق لي عنده ولا دعوى وما ادعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعواي باطلة والله أعلم
المثال الثمانون: إذا ادعت عليه المرأة أنه لم ينقق عليها ولم يكسها مدة مقامها معه أو سنين كثيرة والحس والعرف يكذبها لم يحل للحاكم أن يسمع دعواها ولا يطالبه برد الجواب فإن الدعوى إذا ردها الحس والعادة المعلومة كانت كاذبة وفي الصحيح عنه من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة وفي الصحيح أيضا عنه من ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار
فلا يجوز لأحد حاكم ولا غيره أن يساعد من ادعى ما يشهد الحس والعرف والعادة أنه ليس له وأن دعواه كاذبة ففي سماع دعواه وإحضار المدعى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يكذبه الحس والعادة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)