وقد حكى الله سبحانه في كتابه عن الشاهد الذي شهد من أهل امرأة العزيز وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام وكذب المرأة بقوله إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. وسمى الله سبحانه ذلك آية وهي أبلغ من البينة فقال ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين. وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر وذلك يدل على رضاه به
ومن هذا: حكم نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذي تنازع فيه المرأتان فقضى به داود للكبرى فخرجتا على سليمان فقصتا عليه القصة فقال سليمان عليه السلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبي الله هو ابنها فقضى به للصغرى ولم يكن سليمان ليفعل ولكن أوهمهما ذلك فطابت نفس الكبرى بذلك استرواحا منها إلى راحة التسلي والتأسي بذهاب ابن الأخرى كما ذهب ابنها ولم تطب نفس الصغرى بذلك بل أدركتها شفقة الأم ورحمتها فناشدته أن لا يفعل استرواحا إلى بقاء الولد ومشاهدته حيا وإن اتصل إلى الأخرى
وتأمل حكم سليمان به للصغرى وقد أقرت به للكبرى تجد تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أمارات كذبه وبطلانه لم يلتفت إليه ولم يحكم به على المقر وكان وجوده كعدمه وهذا هو الحق الذي لا يجوز الحكم بغيره
وكذلك إذا غلط المقر أو أخطأ أو نسي أو أقر بما لا يعرف مضمونه لم يؤاخذ بذلك الإقرار ولم يحكم به عليه كما لو أقر مكرها
والله تعالى رفع المؤاخذة بلغو اليمين لكون الحلف لم يقصد موجبها وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب والغالط والمخطىء والناسي والجاهل والمكره لم يكسب قلبه ما أقر به أو حلف عليه فلا يؤاخذ به
والمقصود: أن الزوج المظلوم المدعي عليه دعوى كاذبة ظالمة: بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلها أو مدة مقامها عنده إذا تبين كذب المرأة في دعواها لم يجز للحاكم سماعها فضلا عن مطالبته برد الجواب فله طرق في التخلص من هذه الدعوى
أحدها: أن يقول: كيف يسوغ سماع دعوى تكذبها العادة والعرف ومشاهدة الجيران
الثاني: أن يقول للحاكم: سلها: من كان ينفق عليها ويكسوها في هذه المدة
فإن ادعت أن غيره كان يؤدي ذلك عنه لم تسمع دعواها وكانت الدعوى لذلك الغير ولا يقبل قولها على الزوج أن غيره قام بهذا الواجب عنه وهذا مما لا خفاء به ولا إشكال فيه وإن قالت: أنا كنت أنفق على نفسي قال الزوج: سلها: هل كانت هي التي تدخل وتخرج تشتري الطعام والإدام فإن قالت: نعم ظهر كذبها ولا سيما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار
وإن قالت: كنت أوكل غيري في ذلك ألزمت ببيانه وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها وكانت معاونتها على ذلك معاونة على الإثم والعدوان
فإن أعوز الزوج حاكم عالم متحر للحق لا تأخذه فيه لومة لائم فليعدل إلى التحيل بالخلاص بما يبطل دعواها الكاذبه إما بأن يجحد استحقاقها لما ادعت به ولا يعدل إلى الجواب المفصل فتحتاج هي إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق وقد يتعذر أو يتعسر عليها ذلك
فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره جحد تسليمها إليه والقول قوله إذا لم تكن معه في منزله
فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله وادعى نشوزها تلك المدة وأمكنه إقامة البينة بذلك سقطت نفقتها في مدة النشوز وإن لم يمكنه إقامة البينة وادعى عدم تمكينها له من الوطء وادعت أنها مكنته فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين وهذا غير دعواه النشوز فإن النشوز هو العصيان والأصل عدمه وهذا إنكار لاستيفاء حقه والأصل عدمه فتأمله
فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار ومتى أحس بالشر والمكر احتال بأن يخبىء شاهدي عدل بحيث يسمعان كلامها ولا تراهما ثم يدفع إليها مالا أو ما ترضى به ويتلطف بها ثم يقول: أريد أن يجعل كل منا صاحبه في حل حتى تطيب أنفسنا ولعل الموت يأتي بغتة ونحو ذلك من الكلام
وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة ولا كسوة وأنه يرضيها من الآن ويدفع إليها ما ترضى به كان أقوى ثم يأخذ خط الشاهدين بذلك ويكتمه منها فإن أعجله الأمر عن ذلك وأمكنه المبادرة برفعها إلى حاكم مالكي أو حنفي بادر إلى ذلك
وبالجملة: فالحازم من يستعد لحيلهن ويعد لها حيلا يتخلص بها منها وهذا لا بأس به ولا إثم فيه ولا في تعليمه فإن فيه تخليص المظلوم وإغاثة الملهوف وإخزاء الظالم المعتدي والله الموفق للصواب وإنما أطلنا الكلام في هذا المثال لشدة حاجة الناس إلى ذلك ولعموم البلوى وكثرة الفجور وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى وسماعها وجعل القول قولها وفي ذلك كفاية وإلا فهي تحتمل أكثر من ذلك