قال بعض العلماء: ليس شيء من المحبوبات يستوعب محبة القلب إلا محبة الله أو محبة بشر مثلك أما محبة الله فهي التي خلق لها العباد وبها غاية سعادتهم وكمال نعيمهم وأما البشر المماثل من ذكر أو انثى فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشق وبينه
ما ليس مثله وبينه وبين جنس آخر من المخلوقات ولهذا لا يعرف في محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحب في الجنس ما يزيل العقل ويفسد الإدراك ويوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك المحبوب وإنما يعرف ذلك في محبته لجنسه فتستوعب قلبه وتسلب لبه ويصير لمعشوقة سامعا مطيعا كما قيل:
إن هواك الذب بقلبي... صيرني سامعا مطيعا
ويقوى هذا السمع والطاعة عند كثير من العشاق حتى يبذل نفسه ويسلمها للتلف في طاعة معشوقه كما يبذل المجاهد نفسه لربه حتى يقتل في سبيله وإذا كان النبي قد قال في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: شارب الخمر أو قال مدمن الخمر كعابد وثن
ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون
فما الظن بالعاشق المتيم الفاني في معشوقه ولهذا قرن الله سبحانه بين الخمر والأنصاب وهي الأصنام التي تعبد من دون الله فقال: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ] ومعلوم أن شارب الخمر لا يدوم سكره بل لابد أن يفيق ولعل أوقات إفاقته أكثر من أوقات سكره وأما سكرة العشق فقل أن يستفيق صاحبها إلا إذا جاءت الرسل تطلبه للقدوم على الله تعالى ولهذا استمرت سكرة اللوطية حتى فجأهم عذاب الله وعقوبته
وهم في سكرتهم يعمهون فكيف إذا خرج العشق إلى حد الجنون المطبق كما أنشد محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب اعتلال القلوب قال: أنشد الصيدلاني قالت:
جننت على رأسي فقلت لها... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق ليس يفيق الدهر صاحبه... وإنما يصرع المجنون في الحين
فصاحبه أحق بأن يشبه بعابد الوثن والعاكف على التماثيل فإن عكوف قلب العاشق على صورة محبوبه وتمثاله يشبه عكوف عابد الصنم على صنمه
وإذا كان الشيطان يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين في الخمر والميسر ويصدهم بذلك عن ذكر الله وعن الصلاة فالعداوة والبغضاء والصد الذي يوقعه بالعشق أعظم بكثير
وجميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان وهما العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فإن التحاب والتآلف إنما هو بالإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا أي يلقي بينهم المحبة فيحب بعضهم بعضا فيتراحمون ويتعاطفون بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعض من المحبة وقال ابن عباس: يحبهم ويحبعبهم إلى عباده قال هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله تعالى إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم
وأهل المعاصي والفسوق وإن كان بينهم نوع مودة وتحابي فإنها تنقلب عداوة وبغضا وفي الغالب يتعجل لهم ذلك في الدنيا قبل الآخرة وأما في الآخرة ف الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوك إلا المتقين وقال إمام الحنفاء لقومه: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا فالمعاصي كلها توجب ذلك وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وذكر ذلك في الخمر والميسر اللذين هما من أواخر المحرمات تنبيه على ما في غيرهما من ذلك مما حرم قبلهما وهو أشد تحريما منهما فإن ما يوقعه قتل النفوس وسرقة الأموال وارتكاب الفواحش من ذلك وما يصد به عن ذكر الله وعن الصلاة أضعاف أضعاف ما يقتضيه الخمر والميسر والواقع شاهد بذلك
وكم وقع وهو واقع بين الناس بسبب عشق الصور من العداوة والبغضاء وزوال الألفة والمحبة وانقلابها عداوة
وأما صده عن ذكر الله فقلب العاشق ليس فيه موضع لغير معشوقه كما قيل
ما في الفؤاد لغير حبك موضع... كلا ولا أحد سواك يحله
وأما صده عن الصلاة فهو إن لم يصد عن صورتها وأعمالها الظاهرة فإنه يصد عن حقيقتها ومقاصدها الباطنة
فصل

ومما يبين أن هذه الفواحش أصلها المحبة لغير الله تعالى سواء كان المطلوب المشاهدة أو المباشرة أو غير ذلك أنها في المشركين أكثر منها في المخلصين ويوجد فيهم منها ما لا يوجد مثله في المخلصين
قال تعالى 7: 27 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين إلى قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
فأخبر سبحانه أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وهو قوله 18: 50 أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا وقال تعالى في الشيطان 60: 100 إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وأخبر عنه 38: 82 أنه أقسم بعزة ربه أنه يغوي عباده أجمعين واستثنى أهل الإخلاص منهم وأخبر سبحانه عن أولياء الشيطان أنهم إذا فعلوا فاحشة احتجوا بتقليد أسلافهم وزعموا أن الله سبحانه أمرهم بها فاتبعوا الظن الكاذب والهوى الباطل
قال شيخنا وفي هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة من الصوفية والعباد والأمراء والأجناد والمتفلسفة والمتكلمين والعامة وغيرهم يستحلون من الفواحش ما حرمه الله ورسوله ظانين أن الله أباحه أو تقليدا لأسلافهم وأصله العشق الذي يبغضه الله فكثير منهم يجعله دينا ويرى أنه يتقرب به إلى الله إما لزعمه أنه يزكي النفس ويهذبها وإما لزعمه أنه يجمع بذلك قلبه على آدمي ثم ينقله إلى عبادة الله وحده وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهر الحق ومشاهده ويسميها مظاهر الجمال الأحدى وإما لاعتقاده حلول الرب فيها واتحاده بها ولهذا تجد بين نساك هؤلاء وفقرائهم وأمرائهم وأصحابهم توافقا وتآلفا على اتخاذ أنداد من دون الله يحبونهم كحب الله إما تدينا وإما شهوة وإما جمعا بين الأمرين ولهذا يتآلفون ويجتمعون على السماع الشيطاني الذي يهيج الحب المشترك فيهيج من كل قلب ما فيه من الحب
وسبب ذلك خلو القلب مما خلق له من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه والخضوع والذل له والوقوف مع أمره ونهيه ومحابه ومساخطه فإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه ويتخذه إلهه وهذا من تبديل الدين وتغيير فطرة الله التي فطر عليها عباده قال تعالى 30: 30 فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله أي نفس خلق الله لا تبديل له فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع ولا تبديل لنفس هذا الخلق ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه كما قال النبي كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها
فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة
ولما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها وردها إلى حالتها التي خلقت عليها فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها