فصل
ثم كاد أحد ولدي آدم ولم يزل يتلاعب به حتى قتل أخاه وأسخط أباه وعصى مولاه فسن للذرعية قتل النفوس وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل فكاد العدو هذا القاتل بقطيعة رحمه وعقوق والديه وإسخاط ربه ونقص عدده وظلم نفسه وعرضه لأعظم العقاب وحرمه حظه من جزيل الثواب
فصل
ثم جرى الأمر على السداد والاستقامة والأمة واحدة والدين واحد والمعبود واحد فقال تعالى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون وقال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
قال سعيد عن قتادة: ذكر لنا: أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله تعالى نوحا وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وبعث عند الاختلاف بين الناس وترك الحق وقال ابن عباس: كان الناس أمة واحدة: كانوا على الإسلام كلهم وهذا هو القول الصحيح في الآية وقد روى عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا أمة واحدة كانوا كفارا وهذا قول الحسن وعطاء قالا: كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة على ملة واحدة وهي الكفر كانوا كفارا كلهم أمثال البهائم فبعث الله نوحا وإبراهيم والنبيين وهذا القول ضعيف جدا وهو منقطع عن ابن عباس والصحيح عنه خلافه قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانوا على الإسلام كلهم وهذا هو الصواب قطعا فإن قراءة أبي بن كعب فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ويشهد لهذه القراءة: قوله تعالى في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا
والمقصود: أن العدو كادهم وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين كفارا ومؤمنين فكادهم بعبادة الأصنام وإنكار البعث
وكان أول ما كاد به عباد الأصنام من جهة العكوف على القبور وتصاوير أهلها ليتذكروهم بها كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال: وقالوا لا تزرن آلهتكم ولا تزرن ودآ ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت
وقال ابن جرير عن محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: أخبرني أبي قال: أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه السلام لما مات جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند ويقال للجبل: نود وهو أخصب جبل في الأرض قال هشام: فأخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: فكان بنو شيث عليه السلام يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل إن لبنى شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شيء فنحت لهم صنما فكان أول من عملها قال هشام: وأخبرني أبي قال: كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر: قوما صالحين فماتوا في شهر فجزع عليهم ذوو أقاربهم فقال رجل من بني قابيل: يا قوم هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا قالوا: نعم فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذلك القرن الأول وكانت عملت على عهد برد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم القرن الأول ثم جاء من بعدهم القرن الثالث فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا يرجون شفاعتهم عند الله تعالى فعبدوهم وعظموا أمرهم واشتد كفرهم فبعث الله إليهم إدريس عليه السلام نبيا فدعاهم فكذبوه فرفعه الله إليه مكانا عليا ولم يزل أمرهم يشتد فيما قال ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: حتى أدرك نوح [ بن لمك بن متو شلح بن أخنوخ ] عليه السلام فبعثه الله تعالى نبيا وهو يومئذ ابن أربعمائة وثمانين سنة فدعاهم إلى الله تعالى في نبوته عشرين ومائة سنة فعصوه وكذبوه فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك ففرغ منها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ومكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة فأهبط الماء هذه الأصنام [ من جبل نوذ إلى الأرض وجعل الماء يشتد جريه وعبابه ] من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جده فلما نضب الماء وبقيت على الشط فسفت الريح عليه حتى وارتها قلت: ظاهر القرآن يدل على خلاف هذا وأن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وأن الله تعالى أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة
قال الكلبي: وكان عمرو بن لحي كاهنا وله رئي من الجن [ وكان يكنى أبا ثمامة ] فقال له: عجل المسير والظعن من تهامة بالسعد والسلامة [ قال: جير ولا إقامة قال ]: ائت [ ضف ] جدة تجد فيها أصناما معدة فأوردها تهامة ولا تهب ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب فأتى نهر جدة فاستثارها ثم حملها حتى ورد تهامة وحضر الحج فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات [ ابن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ] فدفع إليه ودا فحمله فكان بوادي القرى بدومة الجندل وسمى ابنه عبد ود فهو أول من سمي به وجعل عوف ابنه عامرا [ الذي يقال له: عامر الأجدار سادنا له فلم يزل بنوه يسدنونه حتى جاء الله بالإسلام
قال الكلبي: فحدثني مالك بن حارثة أنه رأى ودا قال: وكان أبي يبعثني باللبن إليه فيقول: اسقه إلهك فأشربه قال: ثم رأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد كسره فجعله جذاذا وكان رسول الله بعث خالد بن الوليد لهدمه فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ود وبنو عامر الأجدار فقاتلهم فقتلهم وهدمه وكسره قال الكلبي: فقلت لمالك بن حارثة: صف لي ودا حتى كأني أنظر إليه قال: كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد دبر أي نقش عليه حلتان متزر بحلة مرتد بأخرى عليه سيف قد تقلده وقد تنكب قوسا وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل يعني جعبة
[ قال: ورجع الحديث قال: ] وأجابت عمرو بن حيي مضر بن نزار فدفع إلى رجل من هذيل يقال له: الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر: سواعا فكان بأرض يقال لها: وهاط من بطن نخلة يعبده من يليه من مضر وفي ذلك يقول رجل من العرب:
تراهم حول قبلتهم عكوفا... كما عكفت هذيل على سواع
تظل جنابه صرعى لديه... عتائر من ذخائر كلع راع
وأجابته مذحج فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادي يغوث وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها
وأجابته همدان فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم [ بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان ]: يعوق فكان بقرية يقال لها: خيوان تعبده همدان ومن والاها من اليمن
وأجابت حمير: فدفع إلى رجل من ذي رعين يقال له: معد يكرب نسرا فكان بموضع من أرض سبإ يقال له: بلخع تعبده حمير ومن والاها فلم يزل يعبدونه حتى هودهم ذو نواس
فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبي فهدمها وكسرها
قلت: هذا شرح ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكان لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع قال: وهؤلاء أسماء رجال صالحين من قوم نوح وذكر ما تقدم
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب، وفي لفظ وغير دين إبراهيم.
وقال ابن إسحق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله يقول لأكثم بن الجون الخزاعي: يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال: لا إنك مؤمن وهو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحام
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق ابن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي تعبدون فقالوا: نستمطر بها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال: أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنما يقال له: هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه قال هشام: وحدثني أبي وغيره: أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة وولد بها أولاده فكثروا حتى ملئوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة: أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصبابة بمكة فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت حبا للبيت وصبابة به وهم على ذلك يعظمون البيت ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام [ منها على إرث ما بقى من ذكرها فيهم وفيهم على ذلك بقايا ] من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وإهداء البدن [ مع إدخالهم فيه ما ليس منه ] وكانت نزار تقول في إهلالها: لبيك اللهم لبيك * لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك * تملكه وما ملك
[ ويوحدونه التلبية ويدخلون معه آلهتهم ويجعلون ملكها بيده يقول الله تعالى لتبيه وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون. أي ما يوحدونني بمعرفة حقى إلا جعلوا معي شريكا من خلقي
وكانت تلبية عك إذا خرجوا حجاجا قدموا أمامهم غلامين أسودين فكانا أمام ركبهم فيقولان: نحن غرابا عك فتقول عك من بعدهما: عك إليك عانيه... عبادك اليمانيه
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 8 (0 من الأعضاء و 8 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)