وهم أصناف مختلفة:
فمنهم من يحرم إلقاء النفوس فيها وإحراق الأبدان بها وهم أكثر المجوس وطائفة أخرى منهم: تبلغ بهم عبادتهم لها إلى أن يقربوا أنفسهم وأولادهم لها وهؤلاء أكثر ملوك الهند وأتباعهم ولهم سنة معروفة في تقريب نفوسهم وإلقائهم فيها فيعمد الرجل الذي يريد أن يفعل ذلك بنفسه أو بولده أو حبيبه فيحمله ويلبسه أحسن اللباس وأفخر الحلبي ويركبه أعلى المراكب وحوله المعازف والطبول والبوقات فيزف إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهي تأجج طرح نفسه فيها فضج الحاضرون ضجة واحدة بالدعاء له وغبطته على ما فعل فلا يلبث إلا يسيرا حتى يأتيهم الشيطان في صورته وشكله وهيأته لا ينكرون منه شيئا فيأمرهم بأمره ويوصيهم بما يوصيهم به ويوصيهم بالتمسك بهذا الدين ويخبرهم أنه صار إلى جنة ورياض وأنهار وأنه لم يتألم بمس النار له فلا يهولنهم ذلك ولا يمنعهم عن أن يفعلوا مثله ومنهم زهاد وعباد يجلسون حول النار صائمين عاكفين عليها ومن سنتهم: الحث على الأخلاق الجملية كالصدق والوفاء وأداء الأمانة والعفة والعدل وترك أضدادها ولهؤلاء شرائع في عبادتها ونواميس وأوضاع لا يخلون بها
فصل

ومن كيده وتلاعبه: تلاعبه بطائفه أخرى تعبد الماء من دون الله وتسمى الحلبانية
وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء وبه كل ولادة ونمو ونشوء وطهارة وعمارة وما من عمل في الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء فكان حقه أن يعبد
ومن شريعتهم في عبادته: أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل فيه حتى يصير إلى وسطه فيقيم هناك ساعتين أو أكثر بقدر ما أمكنه ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين فيقطعها صغارا فيلقيها فيه شيئا فشيئا وهو يسبحه ويمجده فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه ثم أخذ منه فيضعه على رأسه ووجهه وجسده ثم يسجد وينصرف
فصل

ومن تلاعبه: تلاعبه بعباد الحيوانات فطائفة عبدت الخيل وطائفة عبدت البقر وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات وطائفة تعبد الشجر وطائفة تعبد الجن كما قال سبحانه: ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك ! أنت ولعينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
وقال تعالى: ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم يعني قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم
قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم: أضللتم منهم كثيرا فيجيبه سبحانه أولياؤهم من الإنس بقولهم ربنا استمتع بعضنا ببعض يعنون استمتاع كلع نوع بالنوع الآخر فاستمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يأمرونهم به: من الكفر والفسوق والعصيان فإن هذا أكثر أغراض الجن من الإنس فإذا أطاعوهم فيه فقد أعطوهم مناهم واستمتاع الإنس بالجن: أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى والشرك به بكل ما يقدرون عليه: من التحسين والتزيين والدعاء وقضاء كثير من حوائجهم واستخدامهم بالسحر والعزائم وغيرها فأطاعهم الإنس فيما يرضيهم: من الشرك والفواحش والفجور وأطاعتهم الجن فيما يرضيهم: من التأثيرات والإخبار ببعض المغيبات، فتمتع كل من الفريقين بالآخر
وهذه الآية منطبقة على أصحاب الأحوال الشيطانية الذين لهم كشوف شيطانية وتأثير شيطاني فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن وإنما هم من أولياء الشيطان أطاعوه في الإشراك ومعصية الله والخروج عما بعث به رسله وأنزل به كتبه فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم بكثير من المغيبات والتأثيرات واغتر بهم من قل حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله وعادى أولياءه وحسن الظن بمن خرج عن سبيله وسنته وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول وما جاء به ولم يدعها لأقوال المختلفين وآراء المتحيرين وشطحات المارقين وترهات المتصوفين
والبصير الذي نور الله بصيرته بنور الإيمان والمعرفة إذا عرف حقيقة ما عليه أكثر هذا الخلق وكان ناقدا لا يروج عليه الزغل تبين له أنهم داخلون تحت حكم هذه الآية وهي منطبقة عليهم
فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته له على أسباب فسوقه والشيطان يستمتع به في قبوله منه وطاعته له فيسره ذلك ويفرح به منه والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به وعبادته له ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه وإعانته له
ومن لم يحط علما بهذا لم يعلم حقيقة الإيمان والشرك وسر امتحان الرب سبحانه كلا من الثقلين بالآخر
ثم قالوا: وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وهو يتناول أجل الموت وأجل البعث فكلاهما أجل أجله الله تعالى لعباده وهما الأجلان اللذان قال الله فيهما ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده
وكأن هذا والله أعلم إشارة منهم إلى نوع استعطاف وتوبة فكأنهم يقولون: هذا أمر قد كان إلى وقت وانقطع بانقطاع أجله فلم يستمر ولم يدم فبلغ الأمر الذي كان أجله وانتهى إلى غايته ولكل شيء آخر فقال تعالى: النار مثواكم خالدين فيها فإنه وإن انقطع زمن التمتع وانقضى أجله فقد بقي زمن العقوبة فلا يتوهم أنه إذا انقصى زمن الكفر والشرك وتمتع بعضكم ببعض أن مفسدته زالت بزواله وانتهت بانتهائه والمقصود: أن الشيطان تلاعب بالمشركين حتى عبدوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله
فصل

ومن تلاعبه بهم: أن زين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم بزعمهم ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم ولكن كانت للشياطين فعبدوا أقبح خلق الله وأحقهم باللعن والذم قال تعالى: ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهكؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنع أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى: ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ! ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير وبيان فقوله سبحانه: ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله عام في كل عابد ومن عبده من دون الله
وأما قوله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل فقال مجاهد فيما رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه قال: هذا خطاب لعيسى وعزير والملائكة وروى عنه ابن جريج نحوه
وأما عكرمة والضحاك والكلبي فقالوا: هو عام في الأوثان وعبدتها
ثم يأذن سبحانه لها في الكلام فيقول: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء قال مقاتل: يقول سبحانه أأنتم أمرتموهم بعبادتكم أم هم ضلوا السبيل أى أم هم أخطؤا الطريق فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء
وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة والمسيح وعزيز ومن عبدهم المشركون من أولياء الله ولهذا قال ابن جرير يقول تعالى ذكره قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مما أضاف إليك هؤلاء المشركون ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم بل أنت ولينا من دونهم
وقال ابن عباس ومقاتل نزهوا الله وعظموه أن يكون معه إله
وفيها قراءتان أشهرهما نتخذ بفتح النون وكسر الخاء على البناء للفاعل وهي قراءة السبعة والثانية نتخذ بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول وهي قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع
وعلى كل واحدة من القراءتين إشكال
فأما قراءة الجمهور فإن الله سبحانه إنما سألهم هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم أم هم ضلوا السبيل باختيارهم وأهوائهم وكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال فإنه لم يسألهم هل اتخذتم من دوني من أولياء حتى يقولوا ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وإنما سألهم هل أمرتم عبادي هؤلاء بالشرك أم هم أشركوا من قبل أنفسهم فالجواب المطابق أن يقولوا لم نأمرهم بالشرك وإنما هم آثروه وارتضوه أو لم نأمرهم بعبادتنا كما قال في الآية الأخرى عنهم 28: 13 تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون
فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول وقالوا الجواب يصح على ذلك ويطابق إذ المعنى ليس يصلح لنا أن نعبد ونتخذ آلهة فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا ولا يحسن منا
ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر وهو قوله من أولياء فإن زيادة من لا يحسن إلا مع قصد العموم كما تقول ما قام من رجل وما ضربت من رجل فأما إذا كان النفي واردا على شيء مخصوص فإنه لا يحسن زيادة من فيه وهم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين أنهم أمروهم بالشرك فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم ولا يليق بهم أن يعبدوا فكيف ندعوا عبادك إلى أن يعبدونا فكان الواجب على هذا أن تقرأ ما كان ينبغي لنا أن نتخذ أولياء من دونك أو من دونك أولياء
فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه
أحدها أن المعنى ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك ونتخذ غيرك وليا ومعبودا فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا أي إذا كنا نحن لا نعبد غيرك فكيف ندعو أحدا إلى أن يعبدنا والمعنى أنهم إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة غير الله تعالى فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم وهذا جواب الفراء
وقال الجرجاني هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر وهو أن من عبد شيئا فقد تولاه وإذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد يدل على هذا قوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود