فصل
فسرت هذه البلايا الثلاثة في كثير من طوائف الفلاسفة لا في جميعهم فإن الفلسفة من حيث هي لا تعطي ذلك فإن معناها محبة الحكمة والفيلسوف أصله فيلاسوفا أي محبة الحكمة ففيلا هي المحب وسوفا هي الحكمة والحكمة نوعان قولية وفعلية فالقولية قول الحق والفعلية فعل الصواب وكل طائفة من الطوائف لهم حكمة يتقيدون بها
وأصح الطوائف حكمة من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل التي جاءوا بها عن الله تعالى قال تعالى عن نبيه داود عليه السلام 38: 20 وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وقال عن المسيح عليه السلام 3: 48 ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وقال عن يحيى عليه السلام 19: 12 وآتيناه الحكم صبيا والحكم هو الحكمة وقال لرسوله محمد 4: 113 وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وقال 2: 219 يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وقال لأهل بيت رسوله 33: 33 واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
فالحكمة التي جاءت بها الرسل هي الحكمة الحق المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح للهدى ودين الحق لإصابة الحق اعتقادا وقولا وعملا وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله وجمعها لمحمد كما جمع له من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله وجمع في كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه في الكتب قبله فلو جمعت كل حكمة صحيحة في العالم من كل طائفة لكانت في الحكمة التي أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزءا يسيرا جدا لا يدرك البشر نسبته
والمقصود أن الفلاسفة اسم جنس لمن يجب الحكمة ويؤثرها
وقد صار هذا الإسم في عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه
وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لاتباع إرسطو وهم المشاءون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين
وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة ومقالتهم واحدة من مقالات القوم حتى قيل إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير إرسطو وشيعته فهو أول من عرف أنه قال بقدم هذا العالم والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه وإثبات الصانع ومباينته للعالم وأنه فوق العالم وفوق السموات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم أبو الوليد بن رشد في كتابه مناهج الأدلة
فقال فيه القول في الجهة
وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله إلى أن قال والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السموات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي حتى قرب من سدرة المنتهى وجميع الحكماء اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه وأن إبطال هذه القاعدةإبطال للشرائع
فقد حكى لك هذا المطلع على مقالات القوم الذي هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه: إجماع الحكماء على أن الله سبحانه في السماء فوق العالم
والمتطفلون في حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك أما جهلا وإما عمدا وأكثر من رأيناه يحكي مذاهبهم ومقالات الناس متطفل
وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال وحدوث العالم وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه كما ذكره فيلسوف الإسلام في وقته أبو البركات البغدادي وقرره غاية التقرير وقال: لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلا بذلك وأن نفي هذه المسألة ينفي ربوبيته قال: والإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه أولى
فصل
وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم العارفون فيهم معظمين للرسل والشرائع موجبين لاتباعهم خاضعين لأقوالهم معترفين بأن ما جاءوا به طور آخر وراء طور العقل وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل ويقولون: علومنا إنما هي الرياضيات والطبيعيات وتوابعها وكانوا يقرون بحدوث العالم وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم أرسطو وكان مشركا يعبد الأصنام وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره وقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين حتى الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء
وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئا من الموجودات وقرر ذلك بأنه لو علم شيئا لكمل بمعلوماته ولم يكن كاملا في نفسه وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات
فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ
وقد حكى ذلك أبو البركات وبالغ في إبطال هذه الحجج وردها
فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه: الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة ممن يتستر باتباع الرسل وهو منحل من كل ما جاءوا به وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قبلوه وما خالفه لم يعبئوا به شيئا
ويسمونه المعلم الأول لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشعر
وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني كما أن العروض ميزان الشعر وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه وتعويجه للعقول وتخبيطه للأذهان وصنفوا في رده وتهافته كثيرا وآخر من صنف في ذلك شيخ الاسلام ابن تيمية ألف في رده وإبطاله كتابين كبيرا وصغيرا بين فيه تناقضه وتهافته فساد كثير من أوضاعه ورأيت فيه تصنيفا لأبي سعيد السيرافي
والمقصود: أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم الأول حتى انتهت نوبتهم إلى معلمهم الثاني: أبي نصر الفارابي فوضع لهم التعاليم الصوتية كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية ثم وسع الفارابي الكلام في صناعة المنطق وبسطها وشرح فلسفة أرسطو وهذبها وبالغ في ذلك وكان على طريقة سلفه: من الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة وإذا رأوه مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه متقيدا بشريعة الإسلام نسبوه إلى الجهل والغباوة فإن كان ممن لا يشكون في فضيلته ومعرفته نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام
فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط
ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم وليس هذا من جهله بمقالات القوم وجهله بحقائق الاسلام ببعيد
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى عما يقولون عندهم كما قرره أفضل متأخريهم ولسانهم وق***هم الذي يقدمونه على الرسل: أبو علي بن سينا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به ولا يفعل شيئا باختياره البتة ولا يعلم شيئا من الموجودات أصلا لا يعلم عدد الأفلاك ولا شيئا من المغيبات ولا له كلام يقوم به ولا صفة
ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن لا حقيقة له وإنما غايته ان يفرضه الذهن
ويقدره كما يفرض الأشياء المقدرة وليس هذا هو الرب الذي دعت إليه الرسل وعرفته الأمم بل بين هذا الرب الذي دعت إليه الملاحدة وجردته عن الماهية وعن كل صفة ثبوتية وكل فعل اختياري وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا مباين له ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله وبين رب العالمين وإله المرسلين من الفرق ما بين الوجود والعدم والنفي والإثبات فأي موجود فرض كان أكمل من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة ونحتته أفكارهم بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجود وهذا الرب ليس له وجود ويستحيل وجوده إلا في الذهن هذا وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول أرسطو فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجبا ووجودا ممكنا هو معلول له وصادر عنه صدور المعلول عن العلة وأما أرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة وعلة غائية لحركة الفلك فقط وصرح بأنه لا يعقل شيئا ولا يفعل باختياره وأما هذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذهبه فإنما هو من وضع ابن سينا فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين في التجهم فهم في غلوهم في تعطيلهم ونفيهم أسد مذهبا وأصح قولا من هؤلاء
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله تعالى
وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة ولا يؤمنون بهم وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبي بزعمهم في نفسه من أشكال نورانية هي العقول عندهم وهي مجردات ليست داخل العالم ولا خارجه ولا فوق السموات ولا تحتها ولا هي أشخاص تتحرك ولا تصعد ولا تنزل ولا تدبر شيئا ولا تتكلم ولا تكتب أعمال العبد ولا لها إحساس ولا حركة البتة ولا تنتقل من مكان إلى مكان ولا تصف عند ربها ولا تصلي ولا لها تصرف في أمر العالم البتة فلا تقبض نفس العبد ولا تكتب رزقه وأجله وعمله ولا عن اليمين ولا عن الشمال قعيد كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام فقال: الملائكة هي القوى الخيرة الفاضلة التي في العبد والشياطين هي القوى الشريرة الرديئة هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل
وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك فإنه ما قال شيئا ولا يقول ولا يجوز عليه الكلام ومن تقرب منهم إلى المسلمين يقول: الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية فتصورت تلك المعاني وتشكلت في نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه وربما قوي الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه وربما قوي ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج وأما الرسل والأنبياء فللنبوة عندهم ثلاث خصائص من استكملها فهو نبي: أحدها: قوة الحدس يحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة الثانية: قوة التخيل والتخييل بحيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية تخاطبه ويسمع الخطاب منها ويخيلها إلى غيره
الثالثة: قوة التأثير بالتصرف في هيولى العالم وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق واتصالها بالمفارقات من العقول والنفوس المجردة وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين وابن هود وأضرابهما والنبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع بل من أشرف الصنائع كالسياسة بل هي سياسة العامة وكثير منهم لا يرضى بها ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة والنبوة: فلسفة العامة
وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات وانتثار الكواكب وقيامة الأبدان ولا يقرون بأن الله خلق السموات والآرض في ستة أيام وأوجد هذا العالم بعد عدمه
فلا مبدأ عندهم ولا معاد ولا صانع ولا نبوة ولا كتب نزلت من السماء تكلم الله بها ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء
وحسبك جهلا بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب واستكمل بغيره وحسبك خذلانا وضلالا وعمى: السير خلف هؤلاء وإحسان الظن بهم وأنهم أولوا العقول
وحسبك عجبا من جهلهم وضلالهم: ما قالوه في سلسلة الموجودات وصدور العالم عن العقول والنفوس إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه ولا إرادة وأنه لم يصدر عنه إلا واحد فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصلوه وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله وتكثر الموجودات وتعددها يكذب هذا الرأي الذي هو ضحكة للعقلاء وسخرية لأولي الألباب مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا وإرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع وهيهات وإلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم البتة
فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات والمعاد لا مبدأ عنده ولا معاد ولا رسول ولا كتاب
والرازي وفروخه لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة غير طريقه
ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدا قد حكاها أصحاب المقالات كالأشعري في مقالاته الكبيرة وأبي عيسى الوراق والحسن بن موسى النوبختين وأبو الوليد بن رشد يحكي مذهب أرسطو غير ما حكاه ابن سينا ويغلطه في كثير من المواضع وكذلك أبو البركات البغدادي يحكي نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)