وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل من الفلاسفة والملاحدة أن يتمسكوا بما هم عليه فإنهم شرحوا لهم دينهم الذي جاء به المسيح على هذا الوجه ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه وساءت ظنونهم بالرسل والكتب ورأوا أن ما هم عليه من الآراء أقرب إلى المعقول من هذا الدين وقال لهم هؤلاء الحيارى الضلال: إن هذا هو الحق الذي جاء به المسيح فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل وإحسان الظن بما هم عليه
ولهذا قال بعض ملوك الهند وقد ذكرت له الملل الثلاث فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعي فإني أرى ذلك بحكم عقلي وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا ولكن أستثني هؤلاء القوم من بين جميع العوالم
لأنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العداوة وحلوا ببيت الاستحالات وحادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية واعتقدوا كل مستحيل ممكنا وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدى ألبتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم إلا أنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرق والرشيد سفيها والمحسن مسيئا لأن من كان أصل عقيدته التي جرى نشوءه عليها: الإساءة إلى الخالق والنيل منه ووصفه بضد صفاته الحسنى فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق مع ما بلغنا عنهم من الجهل وضعف العقل وقلة الحياء وخساسة الهمة فهذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة
وقال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر وليس بأفلاطون تلميذ سقراط إذ ذاك أقدم من هذا: لما ظهر محمد بتهامة ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له رأينا أن نقصد اصطمر البابلي لنعلم ما عنده ونأخذ برأيه فلما اجتمعنا على الخروج من مصر رأينا أن نصير إلى قراطيس معلمنا وحكيمنا لنودعه فلما دخلنا عليه ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا فغشى عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها فبكينا فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء فتصبرنا جهدنا حتى هدأ وفتح عينيه وقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه وأحذركم منه إنكم قوم غيرتم فغير بكم أطعتم جهالا من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية فقصدتم البشر من التعظيم بما هو للخالق وحده فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدحة الكاتب وإنما حركة القلم بالكاتب
ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة
أحدهما: الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريك الخالق وجزءا منه وإلها آخر معه وأنفوا أن يكون عبدا له والثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم حيث زعموا أنه سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا نزل من العرش عن كرسي عظمته ودخل في فرج امرأة وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن ثم خرج من حيث دخل رضيعا صغيرا يمص الثدي ولف في القمط وأودع السرير يبكي ويجوع ويعطش ويبول ويتغوط ويحمل على الأيدي والعواتق ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه وربطوا يديه وبصقوا في وجهه وصفعوا قفاه وصلبوه جهرا بين لصين وألبسوه إكليلا من الشوك وسمروا يديه ورجليه وجرعوه أعظم الآلام هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وهو المعبود المسجود له
ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم
كما قال تعالى فيما يحكي عنه رسوله الذي نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي: تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدزا فقال: شتمنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياى فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياى فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في هذه الأمة: أهينوهم ولا تظلموهم فلقد سبوا الله تعالى مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ولعمر الله إن عباد الأصنام مع أنهم أعداء الله تعالى على الحقيقة وأعداء رسله عليهم السلام وأشد الكفار كفرا يأنفون أن يصفوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تعالى وهي من الحجارة والحديد والخشب بمثل ما وصفت به هذه الأمة رب العالمين وإله السموات والأرضين وكان الله تعالى في قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك أو بما يقاربه وإنما شرك القوم: أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة وزعموا أنها تقربهم إليه لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له ولا نظيرا ولا ولدا ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة وعذرهم في ذلك أقبح من قولهم فإن أصل معتقدهم: أن أرواح الأنبياء عليهم السلام كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح فكان إبراهيم وموسى ونوح وصالح وهود معذبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه ثم إن الله سبحانه وتعالى لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيل على إبليس بحيلة فنزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن مريم حتى ولد وكبر وصار رجلا فمكن أعداءه اليهود من نفسه حتى صلبوه وتوجوه بالشوك على رأسه فخلص أنبياءه ورسله وفداهم بنفسه ودمه فهرق دمه في مرضاة جميع ولد آدم إذ كان ذنبه باقيا في أعناق جميعهم فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه وتسميره وصفعه إلا من أنكر صلبه أو شك فيه أو قال: بأن إلاله يجل عن ذلك فهو في سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك وأن إلهه صلب وصفع وسمر فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنف أسقط الناس وأقلهم أن يفعله بمملوكه وعبده وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن ينسب إليه أوثانهم وكذبوا الله تعالى في كونه تاب على آدم عليه السلام وغفر له خطيئته ونسبوه إلى أقبح الظلم حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه في الجحيم بسبب خطيئة أبيهم ونسبوه إلى غاية السفه حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دمه ونسبوه إلى غاية العجز حيث عجزوه أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحيلة ونسبوه إلى غاية النقص حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا وبالجملة فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة كما قال عمر رضي الله عنه: إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر وكان بعض أئمة الاسلام إذا رأى صليبيا أغمض عينيه عنه وقال: لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب ولهذا قال عقلاء الملوك: إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا فإنهم عار على بني آدم مفسدون للعقول والشرائع
وأما شريعتهم ودينهم فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح ولا دينه ألبته
فأول ذلك أمر القبلة فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح عليه السلام لم يصل إلى المشرق أصلا بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بنحو ثلثمائة سنة وإلا فالمسيح إنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس وهي قبلة الأنبياء قبله وإليها كان يصلي النبي مدة مقامه بمكة وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا ثم نقله الله تعالى إلى قبلة أبيه إبراهيم
ومن ذلك: أن طوائف منهم وهم الروم وغيرهم لا يرون الاستنجاء بالماء فيبول أحدهم ويتغوط ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة فيستقبل المشرق ويصلب على وجهه ويحدث من يليه بأنواع الحديث كذبا كان أو فجورا أو غيبة أو سبا وشتما ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير وما شاكل ذلك ولا يضر ذلك في الصلاة ولا يبطلها وإن دعته الحاجة إلى البول في الصلاة بال وهو يصلي صلاته
وكل عاقل يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة قبيح جدا وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى الرضا والثواب ومن العجيب أنهم يقرؤن في التوراة ملعون من تعلق بالصليب وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه ولو كان لهم أدنى عقل لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب حيث وجدوه ويكسروه ويضمخوه بالنجاسة فإنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم وأهين عليه وفضح وخزي
فيا للعجب بأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم لولا أن القوم أضل من الأنعام
وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه في دين المسيح بعده بزمان ولا ذكر له في الإنجيل البتة وإنما ذكر في التوراة باللعن لمن تعلق به فاتخذته هذه الأمة معبودا يسجدون له
وإذا اجتهد أحدهم في اليمين بحيث لا يحنث ولا يكذب حلف بالصليب ويكذب إذا حلف بالله ولا يكذب إذا حلف بالصليب ولو كان لهذه الأمة أدنى مسكة من عقل لكان ينبغي لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صلب عليه كما قالوا: إن الأرض لعنت من أجل آدم حين أخطأ وكما لعنت الأرض حين قتل قابيل أخاه وكما في الإنجيل: إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان
فلو عقلوا لكان ينبغي لهم أن لا يحملوا صليبا ولا يمسوه بأيديهم ولا يذكروه بألسنتهم وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره ولقد صدق القائل: عدو عاقل خير من صديق أحمق لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح فاجتهدوا في ذمه وتنقصه والإزراء به والطعن عليه وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود وتنفير الناس عنهم وإغراءهم بهم فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير وعلموا أن الدين لا يقوم بذلك فوضع لهم رهبانهم وأساقفتهم من الحبل والمخاريق وأنواع الشعبذة ما استمالوا به الجهال وربطوهم به وهم يستجيزون ذلك ويستحسنونه ويقولون: يشد دين النصرانية وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصلب إلههم ولم ينشق ولم يتطاير ولم يتكسر من هيبته لما حمل عليه وقد ذكروا أن الشمس اسودت وتغير حال السماء والأرض فلما لم يتغير الصليب ولم يتطاير استحق عندهم التعظيم وأن يعبد ولقد قال بعض عقلائهم: إن تعظيمنا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء فإنه كان قبر المسيح وهو عليه ثم لما دفن صار قبره في الأرض وليس وراء هذا الحمق والجهل حمق فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شرك بل من أعظم الشرك وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياء اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وأصل الشرك وعبادة الأوثان من العكوف على القبور واتخاذها مساجد
ثم يقال: فأنتم تعظمون كل صليب لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه فإن قلتم: الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذي صلب عليه إلهنا
قلنا: وكذلك الحفر تذكر بحفرته فعظموا كل حفرة واسجدوا لها لأنها كحفرته أيضا بل أولى لأن خشبة الصلب لم يستقر عليها استقراره في الحفرة
ثم يقال: اليد التي مسته أولى أن تعظم من الصليب فعظموا أيدي اليهود لمسهم إياه وإمساكهم له ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدي
فإن قلتم: منع من ذلك مانع العداوة فعندكم أنه هو الذي رضي بذلك واختاره ولو لم يرض به لم يصلوا إليه منه فعلى هذا فينبغي لكم أن تشكروهم وتحمدوهم إذ فعلوا مرضاته واختياره الذي كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقديسين من الجحيم ومن سجن إبليس فما أعظم منة اليهود عليكم وعلى آبائكم وعلى سائر النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى زمن المسيح والمقصود: أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعيب الإله وتنقصه وتنقص نبيعهم وعيبه ومفارقة دينه بالكلية فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح لا في صلاتهم ولا في صيامهم ولا في أعيادهم بل هم في ذلك أتباع كل ناعق مستجيبون لكل ممخرق ومبطل أدخلوا في الشريعة ما ليس منها وتركوا ما أتت به
وإذا شئت أن ترى التغيير في دينهم فانظر إلى صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم فلهم صيام للحواريين وصيام لماري مريم وصيام لماري جرجس وصيام للميلاد وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح وإلا فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكل اللحم ولم يمنعهم منه لا في صوم ولا فطر وأصل ذلك: أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا فشرعوا لأنفسهم صياما فصاموا للميلاد والحواريين وماري مريم وتركوا في هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب ماني فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية فصارت سنة متعارفة بينهم ثم تبعهم على ذلك الملكانية