فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم أنهم قيل لهم وهم مع نبيهم والوحي ينزل عليه من الله تعالى أدخلوا هذه القرية قال قتادة وابن زيد والسدي وابن جرير وغيرهم: هي قرية بيت المقدس فكلوا منها حيث شئتم رغدا أي هنيئا واسعا وادخلوا الباب سجدا قال السدعي: هو باب من أبواب بيت المقدس وكذلك قال بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال والسجود بمعنى الركوع وأصل السجود الانحناء لمن تعظمه فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد قاله ابن جرير وغيره
قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقين عند السلام أحدهما لصاحبه من السجود المحرم وفيه نهي صريح عن النبي
ثم قيل لهم: قولوا حطة أي حط عنا خطايانا هذا قول الحسن وقتادة وعطاء
وقال عكرمة وغيره: أي قولوا: لا إله إلا الله وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التي تحط بها الخطايا وهي كلمة التوحيد
وقال سعيد بن جبيرعن ابن عباس: أمروا بالاستغفار
وعلى القولين: فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار وضمن لهم بذلك مغفرة خطاياهم فتلاعب الشيطان بهم فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم وفعلا غير الذي أمروا به
فروى البخاري في صحيحه ومسلم أيضا من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة فبدلوا القول والفعل معا فأنزل الله عليهم رجزا من السماء قال أبو العالية: هو الغضب وقال ابن زيد: هو الطاعون
وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدل دين الله قولا وعملا
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم كانوا في البرية قد ظلل عليه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى فملو ذلك وذكروا عيش الثوم والبصل والعدس والبقل والقثاء فسألوه موسى عليه السلام وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم وقلة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها ولهذا قال لهم موسى عليه السلام: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا أي مصرا من الأمصار فإن لكم ما سألتم
فكانوا في أفسح الأمكنة وأوسعها وأطيبها هواء وأبعدها عن الأذى ومجاورة الأنتان والأقذار سقفهم الذي يظلهم من الشمس: الغمام وطعامهم: السلوى وشرابهم: المن
قال ابن زيد: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا وشرابهم واحدا كان شرابهم عسلا ينزل من السماء يقال له: المن وطعامهم طير يقال له: السلوى يأكلون الطير ويشربون العسل لم يكن لهم خبز ولا غيره
ومعلوم فضل هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة
وكانوا مع ذلك يتفجر لهم من الحجر اثنا عشر عينا من الماء فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير فذموا على ذلك فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى والغي بالرشاد والشرك بالتوحيد والسنة بالبدعة وخدمة الخالق بخدمة المخلوق والعيش الطيب في المساكن الطيبة في جوار الله تعالى بحظه من العيش النكد الفاني في هذه الدار
فصل
ومن تلاعبه بهم أنهم لما عرضت عليهم التوراة لم يقبلوها وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه حتى أمر الله سبحانه جبريل فقلع جبلا من أصله على قدرهم ثم رفعه فوق رؤوسهم وقيل لهم: إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم فقبلوه كرها قال الله تعالى: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قال عبد الله بن وهب قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لبني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله وأمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى فيقول: هذا كتابي فخذوه فجاءت غضبة من الله تعالى فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون قال: ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله فقالوا: لا فقال: أي شيء أصابكم قالوا: متنا ثم حيينا فقال: خذوا كتاب الله قالوا: لا قال: فبعث الله ملائكته فنتقت الجبل فوقهم فقيل لهم: أتعرفون هذا قالوا: نعم الطور قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم قال: فأخذوه بالميثاق وقال السدى: لما قال الله تعالى لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فأبوا أن يسجدوا فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدا على شق ونظروا بالشق الآخر فكشفه عنهم ثم تولوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا ولم يعملوا بما في كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم فقال تعالى مذكرا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
فصل
ومن تلاعبه بهم أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه وفرق بهم البحر وأراهم الآيات والعجائب ونصرهم وآواهم وأعزهم وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين
ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم وأن تلك القرية لهم فأبوا طاعته وامتثال أمره وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون
وتأمل تلطف نبي الله تعالى موسى عليه السلام بهم وحسن خطابه لهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم وبشارتهم بوعد الله لهم: بأن القرية مكتوبة لهم ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا: انقلبوا خاسرين
فجمع لهم بين الأمر والنهى والبشارة والنذارة والترغيب والترهيب والتذكير بالنعم السالفة فقابلوه أقبح المقابلة فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم: يا موسى إن فيها قوما جبارين فلم يوقروا رسول الله وكليمه حتى نادوه باسمه ولم يقولوا: يا نبى الله وقالوا: إن فيها قوما جبارين ونسوا قدرة جبار السموات والأرض الذي يذل الجبابرة لأهل طاعته وكان خوفهم من أولئك الجبارين الذين نواصيهم بيد الله أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة في صدورهم منه
ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة فقالوا: إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد
أحدها: تمهيد عذر العصيان بقولهم إن فيها قوما جبارين
والثاني: تصريحهم بأنهم غير مطيعين وصدروا الجملة بحرف التأكيد وهو إن ثم حققوا النفي بأداة لن الدالة على نفي المستقبل أي لا ندخلها الآن ولا في المستقبل
ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها فقال لهم رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما بطاعته والانقياد إلى أمره من الذين يخافون الله هذا قول الأكثرين وهو الصحيح وقيل: من الذين يخافونهم من الجبارين أسلما واتبعا موسى عليه السلام ادخلوا عليهم الباب أي باب القرية فاهجموا عليهم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ثم ارشداهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل
فكان جواب القوم أن قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فسبحان من عظم حلمه حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة بل وسعهم حلمه وكرمه وكان أقصى ما عاقبهم به: أن رددهم في برية التيه أربعين عاما يظلل عليهم الغمام من الحر وينزل عليهم المن والسلوى
وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك فرأيت رسول الله أشرق وجهه لذلك وسر به
فلما قابلوا نبي الله بهذه المقابلة قال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)