وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكّر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه؛ فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا.
فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضرًا دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعُطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود؛ فامتنع عليهم؛ فحبسوه في الحمام؛ وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إسطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح؛ فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة؛ فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه؛ فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعًا، وتراكض الناس يومهم - وهو يوم الثلاثاء وليلته - بالسلاح جائين وذاهبين؛ فقال لهم وصيف: ترفقوا حتى تنظروا؛ فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه. فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى عملوا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد؛ وقد كان وصيف أعطى قومًا من المغاربة فرسانًا ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث إلى الشاكرية أن يكونوا على عدة إن احتيج إليهم، وسكن الناس عند الظهر، وهدأت الأمور؛ وقد كان عدةٌ من قواد الأتراك صاروا إلى هؤلاء المشغبين وسألوهم الانصراف، فقالوا: يوق يوق، أي لا لا.
فذكر عن بشر بن سعيد عن جامع بن خالد - وكان أحد خلفاء وصف من الأتراك - أنه كان المتولى مخاطبتهم مع عدة ممن يعرف التركية، فأعلموهم أن المستعين وبغا ووصيف قد خرجوا إلى بغداد، فأظهروا التندم، وانصرفوا منكسرين؛ فلما انتشر الخبر بخروج المستعين صار الأتراك إلى دور دليل بن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه؛ فانتبهوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات؛ وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب؛ ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها؛ من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار؛ لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب.
وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي:
لعمري لئن قتلوا باغرًا ** لقد هاج باغر حربًا طحونا
وفرّ الخليفة والقائدا ** ن بالليل يلتسمان السفينا
وصاحوا بميسان ملاحهم ** فجاءهم يسبق الناظرينا
فألزمهم بطن حراقةٍ ** وصرت مجاذيفهم سائرينا
وما كان قدر ابن مارمةٍ ** فتسكب فيه الحروب الزبونا
ولكن دليلٌ سعى سعيةً ** فأخزى الإله بها العالمينا
فحل ببغداد قبل الشروق ** فحل بها منه ما يكرهونا
فليت السفينة لم تأتنا ** وغرقها الله والراكبينا
وأقبلت الترك والمغربون ** وجاء الفراغنة الدارعونا
تسير كراديسهم في السلاح ** يروحون خيلًا ورجلًا ثبينا
فقام بحربهم عالمٌ ** بأمر الحروب تولاه حينا
فجدد سورًا على الجانب ** ين حتى أحاطهم أجمعينا
وأحكم أبوابها المصمتات ** على السور بها المستعينا
وهيا مجانيق خطارةً ** تفيت النفوس وتحمي العرينا
وعبى فروضًا وجيشية ** ألوف ألوفٍ إذ تحسبونا
وعبى المجانيق منظومةً ** على السور حتى أغار العيونا
فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له، ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل: لئن عقرك القيد؛ لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة. ومات ابن مارمة في تلك الأيام؛ فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد:
ما زال إلا لزوال ملكه ** وحتفه من بعده وهلكه
ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحًا قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار إلا سرًا أو بمؤنة ثقيلة.
وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان

وفي هذه السنة هاجت الفتنة ووقعت الحرب بين أهل بغداد وجند السلطان الذين كانوا بسامرا، فبايع كل من كان بسامرا منهم المعتز، وأقام من ببغداد منهم على الوفاء ببيعة المستعين.
ذكر الخبر عن سبب هيج هذه الفتنة وسبب بيعة من كان بسامرا من الجند المعتز وخلعهم المستعين ونصبهم الحرب لمن أقام على الوفاء ببيعته
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل موافاة المستعين وشاهك الخادم ووصيف وبغا وأحمد بن صالح بن شيرزاد بغداد؛ وكانت موافاتهم إياها يوم الأربعاء لثلاث ساعات مضين من النهار لأربعة أيام - وقيل لخمسة أيام - خلون من المحرم من هذه السنة؛ فلما وافاها، نزل المستعين على محمد ين بن عبد الله بن طاهر في داره، ثم وافى بغداد خليفة لوصيف على أعماله، يعرف بسلام؛ فاستعلم ما عنده، ثم انصرف راجعًا إلى منزله بسامرا، فوافى القواد خلا جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ بغداد مع جلة الكتاب والعمال وبني هاشم، ثم وافى بعد ذلك من قواد الأتراك الذين في ناحية وصيف كلباتكين القائد وطيغج الخليفة، تركي، وابن عجوز الخليفة، نسائي؛ وممن في ناحية بغا بايكباك القائد من غلمان الخدمة مع عدة من خلفاء بغا.
وكان - فيما ذكر - وجّه إليهم وصيف وبغا قبل قدومهم رسولًا، يأمرانهم أن يصيروا إذا قدموا بغداد إلى الجزيرة التي حذاء دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ولا يصيروا إلى الجسر، فيرعبوا العامة بدخولهم، ففعلوا وصاروا إلى الجزيرة، فنزلوا عن دوابهم، فوجهت إليهم زواريق حتى عبروا فيها، فصعد كلباتكين وبايكباك والقواد من أهل الدور وأرناتجور التركي، فدخلوا على المستعين، فرموا بأنفسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللًا وخضوعًا، وكلموا المستعين وسألوه الصفح عنهم والرضا، فقال لهم: أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم؛ ألو ترفعوا إلي في أولادكم، فألحقتهم بكم؛ وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة في المدركين والمولودين! وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها؛ كل ذلك إرادةً لصلاحكم ورضاكم؛ وأنتم تزدادون بغيًا وفسادًا وتهددًا وإبعادًا!.
فتضرعوا، وقالوا: قد أخطأنا، وأمير المؤمنين الصادق في كل قوله، ونحن نسأله العفو عنا والصفح عن زلتنا! فقال المستعين: قد صفحت عنكم ورضيت؛ فقال له بايكباك: فإن كنت قد رضيت عنا وصفحت، فقم فاركب معنا إلى سامرا؛ فإن الأرتاك ينتظرونك؛ فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكن في حلق بايكباك. وقال له محمد بن عبد الله: هكذا يقال لأمير المؤمنين؛ قم فاركب معنا! فضحك المستعين من ذلك. وقال: هؤلاء قوم عجم؛ ليس لهم معرفة بحدود الكلام. وقال لهم المستعين، تصيرون إلى سامرا؛ فإن أرزاقكم دارة عليكم، وأنظر في أمري ها هنا ومقامي.
فانصرفوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وردوا عليه من الأتراك خبرهم، وخالفوا فيما رد عليهم تحريضًا لهم على خلعه والاستبدال به، وأجمع رأيهم على إخراج المعتز والبيعة له؛ وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق في حجرة صغيرة، مع كل واحد منهما غلام يخدمه؛ موكلٌ بهم رجل من الأتراك يقال له عيسى خليفة بليار ومعه عدة من الأعوان، فأخرجوا المعتز من يومهم، فأخذوا من شعره، وقد كان بويع له بالخلافة؛ وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يتم المال، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم.
وكان المستعين خلف بسامرا في بيت المال مما كان طمجور وأساتكين القائدان قدما به من ناحية الموصل من مال الشأم نحوًا من خمسمائة ألف دينار؛ وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار، وفي بيت مال العباس بن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار؛ فذكر أن نسخة البيعة التي أخذت:
بسم الله الرحمن الرحيم. تبايعون عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين بيع طوع واعتقاد، ورضًا ورغبة وإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم؛ لا مكرهين ولا مجبرين؛ بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من تقوى الله وإيثار طاعته، وإعزاز حقه ودينه؛ ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين؛ على أن أبا عبد الله المعتز بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ونصيحته والوفاء بحقه وعهده؛ لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع والطاعة، والمشايعة والوفاء، والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله وأبو عبد الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين؛ من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ من خاص وعام، وقريب وبعيد، متمسكين ببيعته بوفاء العقد وذمة العهد؛ سرائركم في ذلك كعلانيتكم، وضمائركم فيه كمثل ألسنتكم، راضين بما يرضى يه أمير المؤمنين بعد بيعتكم هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم صفقةً، راغبين طائعين؛ عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وبولاية عهد المسلمين لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد عليكم، وعلى ألا يميل بكم في ذلك مميل عن نصرة وإخلاص وموالاة؛ وعلى ألا تبدلوا ولا تغيروا، ولا يرجع منكم راجع عن بيعته وانطوائه على غير علانيته؛ وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتموها بألسنتكم وعهودكم بيعةً يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتمادها. وعلى الوفاء بذمة الله فيها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها؛ لا يشوب ذلك منكم نفاق ولا إدهان ولا تأول؛ حتى تلقوا الله موفين بعهده، مؤدين حقه عليكم، غير مستريبين ولا ناكثين؛ إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين بيعة خلافته وولاية العهد من بعده لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين: " إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا ".