ذكر خبر هزيمة الأتراك ببغداد

وفي يوم الاثنين لأيام خلت من ذي العقدة من هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد، هزموا فيها الأتراك، وانتهبوا عسكرهم؛ وكان سبب ذلك أن الأبوابكلّها من الجانبين فتحت ونصبت المجانيق والعرّادات في الأبواب كلها والشيّرات في دجلة، وخرج منها الجند كلّهم، وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف حين تزاحف الفريقان، واشتدّت الحرب إلى باب لبقطيعة، ثم عبروا إلى باب الشماسيّة، وقعد ابن طاهر في قبّة ضربت له، وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكيّة في الزواريق؛ ربما انتظم السهم الواحد عدّة منهم فقتلهم، فهزمت الأتراك، وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، وانتهبوا سوقهم هنالك، وضربوا زورقًا لهم كان يقال له الحديدي، كان آفةً على أهل بغداد بالنار، وغرق من فيه، وأخذوا لهم شبّارتين؛ وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء، وجعل وصيف وبغا يقولان كلما جيء برأس: ذهب والله الموالي. واتّبعهم أهل بغداد إلى الروذبار، ووقف أبو أحمد بن المتكل يردّ الموالي، ويخبرهم أنهم إن لم يكرّوا لم يبق لهم بقيّة؛ وأن القوم يتبعونهم إلى سامرّا. فتراجعوا، وثاب بعضهم، وأقبلت العامة تحزّ رءوس من قتل؛ وجعل محمد بن عبد الله يطوّق كلّ من جاء برأس ويصله، حتى كثر ذلك، وبدت الكراهة في وجوه من مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي؛ ثم ارتفعت غبرة من ريح جنوب، وارتفع الدخان مما احترق، وأقبلت أعلام الحسن بن الأفشين مع أعلام الأتراك يقدمها علمٌ أحمر، قد استلبه غلام لشاهك، فنسى أن ينكّسه؛ فلما رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه "، توهموا أن الأتراك قد رجعوا عليهم وانهزموا؛ وأراد بعض منوقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه، فنكس العلم، والناس قد ازدحموا منهزمين؛ وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فتحمّلوا عليهم؛ فانصرف الفريقان بعضهم عن بعض.
خبر وقعة أبي السلاسل مع المغاربة

وفيها كانت وقعة لأبي السلاسل وكيل وصيف بناحية الجبل مع المغاربة، وكان سب ذلك - فيما ذكر - أنّ رجلا من المغاربة يقال له نصر سلهب، صار بجماعة من المغاربة إلى عمل بعض ما إلى أبي الساج من الأرض، وانتهب هو وأصحابه ما هنالك من القوى؛ فكتب أبو السلاسل إلى أبي الساج يعلمه ذلك، فوجّه أبو الساج إليه - فيما ذكر - بنحو من مائة نفس بين فارس وراجل؛ فلمّا صاروا إليه كبس أولئك المغاربة، فقتل منهم ى تسعة، وأسر عشرين. وأفلت نصر سهلب ساريًا.
ذكر خبر وقوع الصلح بين الموالي وابن طاهر

ووضعت الحرب أوزارها بعد هذه الوقعة بين الموالي وابن طاهر؛ فلم يعودوا لها، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أنّ ابن طاهر قد كان كاتب المعتزّ قبل ذلك في الصلح؛ فلما كانت هذه الوقعة أنكرت عليه؛ فكتب إليه؛ فذكر أنه لا يعود بعدها لشيء يكرهه؛ ثم أغلقت بعد ذلك على أهل بغداد أبوابها؛ فاشتّد عليهم الحصار، فصاحوا في أوّل ذي العقدة من هذه السنة في يوم الجمعة: الجوع! ومضوا إلى الجزيرة التي هي تلقاء دار ابن طاهر؛ فأرسل إليهم ابن طاهر: وجّهوا إلي منكم خمسة مشايخ، فوجّهوا بهم، فأدخلوا عليه؛ فقال لهم: إنّ من الأمور أمورًا لا يعلم بها العامّة؛ وأنا عليل، ولعلي أعطي الجند أرزاقهم ثم أخرج بهم إلى عدوّكم. فطابت أنفسهم، وخرجوا عن غير شيء، وعادت العامة والتّجار بعد إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر؛ فصاحوا وشكوا ما هم فيه من غلاء السعر، فبعث إليهم فسكّنهم؛ ووعدهم ومنّاهم. وأرسل ابن طاهر إلى المعتزّ في الصلح. واضطرب أمر أهل بغداد، فوافى بغداد للنصف من ذي العقدة من هذه السنة حماد بن إسحاق ابن حماد بن زيد، ووجّه مكانه أبو سعيد الأنصاري إلى عسكر أبي أحمد رهينة، فلقي حماد بن إسحاق ابن طاهر، فخلا به فلم يذكر ما جرى بينهما. ثم انصرف حماد ألى عسكر أبي أحمد، ورجع أبو سعيد الأنصاري، ثم رجع حماد إلى ابن طاهر، فجرت بين ابن طاهر وبين أبي أحمد رسائل مع حمّاد.
ولتسع بقين من ذي العقدة خرج أحمد بن إسرائيل إلى عسكر أبي أحمد مع حماد وأحمد بن إسحاق وكيل عبيد الله بن يحيى بإذن ابن طاهر لمناظرة أبي أحمد في الصلح.
ولسبع بقين من ذي العقدة أمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إياه عليه فأطلقه. ومن غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجالة الجند وكثير من العامة، فطلب الجند أرزاقهم، وشكت العامة سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدة الحصار، وقالوا: إما خرجت فقاتلت؛ وإما تركتنا؛ فوعدهم أيضًا الخروج أو فتح الباب للصلح، ومناهم. فانصرفوا.
فلما كان بعد ذلك، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة شحن السجون والجسر وباب داره والجزيرة بالجند والرجال، فحضر الجزيرة بشر كثير، فطردوا من كان ابن طاهر صيرهم فيها، ثم صاروا إلى الجسر من الجانب الشرقي، ففتحوا سجن النساء، وأخرجوا من فيه، ومنعهم علي بن جهشيار ومن معه من الطبرية من سجن الرجال، ومانعهم أبو مالك الموكل بالجسر الشرقي، فشجوه وجرحوا دابتين لأصحابه؛ فدخل داره وخلاهم، فانتهبوا ما في مجلسه، وشد عليهم الطبرية فنحوهم حتى أخرجوهم من الأبواب، وأغلقوها دونهم، وخرج منهم جماعة، ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون، فضمن للجند رزق أربعة أشهر؛ فانصرفوا على ذلك، وأمر ابن طاهر بإعطاء أصحاب ابن جهشيار أرزاقهم لشهرين من يومهم فأعطوا.
ذكر بدء عزم ابن طاهر على خلع المستعين والبيعة للمعتز

ووجه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقت وتبن إلى ابن طاهر في هذه الأيام، فوصلت إليه. ولما كان يوم الخميس لأربع خلون من ذي الحجة علم الناس ما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتز، ووجه ابن طاهر قواده إلى ابن أبي أحمد حتى بايعوه للمعتز، فخلع على كل واحد منهم أربع خلع، وظنت العامة أن الصلح جرى بإذن الخليفة المستعين، وأن المعتز ولى عهده.
خروج العامة ونصرة المستعين على ابن طاهر

ولما كان يوم الأربعاء خرج رشيد بن كاوس - وكان موكلًا بباب السلامة - مع قائد يقال له نهشل بن صخر بن خزيمة بن خازم وعبد الله بن محمود، ووجه إلى الأتراك بإنه على المصير إليهم ليكون معهم، فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس؛ فخرج إليهم على سبيل التسليم عليهم؛ على أن الصلح قد وقع، فسلم عليهم، وعانق من عرف منهم، وأخذوا بلجام دابته، ومضوا به وبابنه في أثره؛ فلما كان يوم الاثنين صار رشيد إلى باب الشماسية فكلم الناس، وقال: إن أمير المؤمنين وأبا جعفر يقرئان عليكم السلام، ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قربناه ووصلناه، ومن آثر غير ذلك فهو أعلم؛ فشتمه العامة. ثم طاف على جميع أبواب الشرقية بمثل ذلك، وهو يشتم في كل باب، ويشتم المعتز. فلما فعل رشيد ذلك علمت العامة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر؛ فصاحوا به وشتموه أقبح شتم؛ ثم صاروا إلى بابه، ففعلوا مثل ذلك؛ فخرج إليهم راغب الخادم، فحضهم على ما فعلوا، وسألهم الزيادة فيما هم فيه من نصرة المستعين، ثم مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش، فمضى بهم وجماعة أخر غيرهم وهم زهاء ثلثمائة في السلاح، فصاروا إلى باب ابن طاهر، فكشفوامن عليه وردهم، فلم يبرحوا يقاتلونهم، حتى صاروا إلى دهليز الدار، وأرادوا إحراق الباب الداخل فلم يجدوا نارًا، وقد كانوا باتوا بالجزيرة الليل كله يشتمونه ويتناولونه بالقبيح.
وذكر عن ابن شجاع البلخي أنه قال: كنت عند الأمير وهو يحدثني ويسمع ما يقذف به من كل إنسان؛ حتى ذكروا اسم أمه، فضحك وقال: يا أبا عبد الله، ما أدري كيف عرفوا اسم أمي! ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها، فقلت له: أيها الأمير، ما رأيت أوسع من حلمك، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما رأيت أوفق من الصبر عليهم؛ ولا بد من ذلك. فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا؛ فصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه لهم! فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى جانبه؛ فحلف لهم بالله ما أتهمه؛ وإني لفي عافية ما على منه بأس وإنه لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت.
ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح يطلبون المستعين، وانتهبوا دوابعلى بن جهشيار - وكانت في الخراب، على باب الجسر الشرقي - وانتهب جميع ما كان في منزله وهرب؛ وما زال الناس وقوفًا على ما هم عليه إلى ارتفاع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما ومواليهما وقوادهما وأخوال المستعين؛ فصار الناس جميعًا إلى الباب، فدخل وصيف وبغا في خاصتهما، ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز، ووقفوا على دوابهم، وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال؛ فأذن لهم بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم نحن والعامة ما نحن عليه؛ ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون، فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر إليه وإدخاله الأتراك والمغاربة بغداد. فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل المدائن والقرى، واستراب بك من أهل بغداد، واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم؛ وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه، فلما تبين محمد بن عبد الله صحة قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم: فخرج إلى دار العامة التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي، وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم؛ فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون أن يخرج إليهم - وقد كان عرف كثرة الناس - أمر بإغلاق الباب الحديد الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن عبد الله إلى الدرجة التي تفضى إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد بردة النبي صلى الله، ومعه القضيب؛ فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا؛ فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله، فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد؛ بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ما له في دار محمد بن عبد الله؛ فانصرف أكثر الناس. وسكن أهل بغداد ولما فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرة بعد مرة وإسماعهم إياه المكروه، تقدم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنها، وذكروا أنه أراد أن يقصد المدائن، واجتمع على بابه جماعة من مشايخ الحربية والأرباض جميعًا؛ يعتذرون إليه ويسألونه الصفح عما كان منهم؛ ويذكرون أن الذي فعل ذلك الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا بها والفاقة التي نالتهم، فرد عليهم - فيما ذكر - مردًا جميلًا، وقال لهم قولًا حسنًا وأثنى عليهم وصفح عما كان منهم، وتقدم إليهم بالتقدم إلى شبابهم وسفهائهم في الأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة، وكتب إلى أصحاب المعاون بترك السخرة.