ولما انتهى إلى باب المدينة دخل معهم المدينة جماعة كثيرة، فصاروا بين البابين وبين الطلقات، فأقاموا هناك ساعة، ثم وجهوا جماعة منهم يكونون نحوًا من ثلثمائة رجل بالسلاح إلى رحبة الجامع بالمدينة؛ ودخل معهم من العامة خلق كثير، فأقاموا في الرحبة، وصاروا إلى جعفر بن العباس الإمام، فأعلموه أنهم لا يمنعونه من الصلاة، وأنهم يمنعونه من الدعاء للمعتز. فأعلمهم جعفر أنه مريض لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه، وصاروا إلى درب أسد بن مرزبان، فشحنوا الشارع النافذ إلى درب الرقيق، ووكلوا بباب درب سليمان بن أبي جعفر جماعة، ثم مضوا يريدون الجسر في شارع الحدادين، فوجه إليهم ابن طاهر عدة من قواده فيهم الحسين بن إسماعيل والعباس ابن قارن وعلي بن جهشيار وعبد الله بن الأفشين في جماعة من الفرسان، فناظروهم ودفعوهم دفعًا رقيقًا، وحمل عليهم الجند والشاكرية حملة جرحوا فيها جماعة من قواد ابن طاهر، وأخذوا دابة ابن قارن وابن جهشيار ورجل من فرض عبيد الله بن يحيى من الشأمين يقال له سعيد الضبابي، وجرحوا المعروف بأبي السنا، ودفعوهم عن الجسر حتى صيروهم إلى باب عمرو بن مسعدة.
فلما رأى الذين بالجانب الشرقي منهم أن أصحابهم قد أزالوا أصحاب ابن طاهر عن الجسر كبروا، وحملوا يريدون العبور إلى أصحابهم وكان ابن طاهر قد أعد سفينة فيها شوك وقصب ليضرم فيها النار، ويرسلها على الجسر الأعلى؛ ففعل ذلك، فأحرقت عامة سفنه وقطعته، وصارت إلى الآخر، فأدركها أهل الجانب الغربي، ففرقوها وأطفئوا النار التي تعلقت بسفن الجسر، وعبر من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي خلق كثير، ودفعوا أصحاب ابن طاهر عن ساباط عمرو بن مسعدة، وصاروا إلى باب ابن طاهر، وصار الشاكرية والجند إلى ساباط عمرو بن مسعدة، وقتل من الفريقين إلى الظهر نحو من عشرة نفر، وصار جماعة من الغوغاء والعامة إلى المجلس الذي يعرف بمجلس الشرطة في الجسر من الجانب الغربي إلى بيت يقال له بيت الرفوع، فكسروا الباب، وانتهبوا ما فيه؛ وكان فيه أصناف من المتاع، فاقتتلوا عليه فلم يتركوا فيه شيئًا، وكان كثيرًا جليلًا. وأحرق ابن طاهر الجسرين لما رأى الجند قد ظهروا على أصحابه، وأمر بالحوانيت التي على باب الجسر التي تتصل بدرب سليمان أن تحرق يمنة ويسرة، ففعل فاحترق فيها للتجار متاع كثير، وتهدم حيطان مجلس صاحب الشرطة؛ فلما ضربت الحوانيت بالنار بين الفريقين، وكبرت الجند عند ذلك تكبيرة شديدة؛ ثم انصرفوا إلى معسكرهم بباب حرب، وصار الحسين بن إسماعيل مع جماعة من القواد والشاكرية إلى باب الشأم، فوقف على التجار والعامة فوبخهم علة معونتهم الجند، وقال: هؤلاء قاتلوا على خبزهم معذورون، وأنتم جيران الأمير ومن يجب عليه نصرته، فلم فعلتم ما فعلتم، وأعنتم الشاكرية عليه ورميتم بالحجارة، والأمير متحول عنكم! ثم صار محمد بن أبي عون إليهم، فقال لهم مثل ذلك؛ وانصرف إلى ابن طاهر، فمكث الجند المشتغبون في مواضعهم ومعسكرهم، وانضم إلى ابن طاهر جماعة من الأثبات وجمع جميع أصحابه، فجعل بعضهم في داره، وبعضهم في الشارع النافذ من الجسر إلى داره، قد عبأهم تعبية الحرب، حذارًا من كرة الجند عليه أيامًا؛ فلم يكن لهم عودة؛ فصار في بعض الأيام التي كان من عودتهم ابن طاهر على وجد - فيما ذكر - رجلان من المشغبة استأمنا إليه، فأخبراه بعورة أصحابهما فأمر لهما بمائتي دينار، ثم أمر الشاه بن مكيال والحسين بن إسماعيل بعد العشاء والآخرة بالمصير في جماعة من أصحابهما إلى باب حرب، فتلطفا لأبي القاسم رئيس القوم وابن الخليل - وكان من أصحاب محمد بن أبي عون - فصاروا إلى ما هناك؛ وكان أبو القاسم وابن الخليل قد صار كل واحد منهم عند مفارقة الرجلين اللذين صاروا إلى ابن طاهر ورجل آخر يقال له القمى؛ وتفرق الشاكرية عنهما إلى ناحية خوفًا على أنفسهم، فمضى الشاه والحسين في طلبهما حتى خرجا من باب الأنبار، وتوجها نحو جسر بطاطيا، فذكر أن ابن الخليل استقبلهما قبل أن يصيرا إلى جسر بطاطيا، فصاح بهما ابن الخليل وبمن معهما من هؤلاء، وصاحوا به، فلما عرفهم حمل عليهم، فخرج منهم عدة، فأحدقوا به، وصار في وسط القوم، فطعنه رجل من أصحاب الشاه، فرمى به إلى الأرض، فبعجه علي بن جهشيار بالسيف وهو في الأرض، ثم حمل على بغل وبه رمق، فلم يصلوا به إلى ابن طاهر حتى قضي، وأمر الشاه بطرحه في كنيف في دهليز الدار إلى أن حمل إلى الجانب الشرقي؛ وأما عبدان بن الموفق فإنه كان قد صار إلى منزله وإلى موضع اختفى فيه، فدل عليه، وأخذ وحمل إلى ابن طاهر، وتفرق الشاكرية الذين كانوا بباب حرب، وصاروا إلى منازلهم، وقيد عبدان بن الموفق بقيدين فيهما ثلاثون رطلًا. ثم صار الحسين بن إسماعيل إلى الحبس الذي هو فيه في دار العامة، وقعد على كرسي، ودعا به، فسأله: هل هو دسيس لأحد، أو فعل ما فعل من قبل نفسه؟ فأخبره أنه لم يدسه أحد، وإنما هو رجل من الشاكرية طلب بخبزه. فرجع الحسين إلى ابن طاهر فأعلمه ذلك، فخرج طاهر بن محمد وأخوه إلى دار العامة الداخلة، فقعدا وأحضرا من بات في الدار من القواد والحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال، وأحضرا عبدان، فحمله رجلان، فكان المخاطب له الحسين، فقال أنت رئيس القوم، فقال: لا؛ إنما أنا رجل منهم؛ طلبت ما طلبوا فشتمه الحسين، وقال حرب بن محمد بن عبد الله بن حرب: كذبت، بل أنت رئيس القوم، وقد رأيناك تعبيهم بباب حرب وفي المدينة وباب الشأم، فقال: ما كنت لهم برأس؛ وإنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا.
فأعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره، وحمل عبدان على بغل؛ ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها. وأراد الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطًا على خاصرته؟ فقال له محمد: هذا شهر عظيم؛ ولا يحل لك أن تصنع به هذا؛ فأمر به فصلب حيًا، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب، فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذًا؛ فسقوه، فترك مصلوبًا إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم الثالث مع الظهر؛ وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل، ودفع ابن الخليل إلى أوليائه فدفن، أعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره، وحمل عبدان على بغل؛ ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها. وأراد الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطًا على خاصرته؟ فقال له محمد: هذا شهر عظيم؛ ولا يحل لك أن تصنع به هذا؛ فأمر به فصلب حيًا، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب، فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذًا؛ فسقوه، فترك مصلوبًا إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم الثالث مع الظهر؛ وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل، ودفع ابن الخليل إلى أوليائه فدفن،
ذكر الخبر عن خلع المؤيد ثم موته

وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز المؤيد أخاه من ولاية العهد بعده.
ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه
كان السبب في ذلك - فيما بلغنا - أن العلاء بن أحمد عامل إرمينية بعث إلى إبراهيم المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث ابن فرخانشاه إليه، فأخذها، فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى بن فرخانشاه، وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى أخويه: المؤيد وأبي أحمد؛ فحبسهما في الجوسق، وقيد المؤيد وصيره في حجرة ضيقة، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة، وحبس كنجور حاجب المؤيد، وضربه خمسين مقرعة، وضرب خليفته أبا الهول خمسمائة سوط وطوف به على جمل، ثم رضى عنه وعن كنجور، فصرف إلى منزله.
وقد ذكر أنه ضرب أهاه المؤيد أربعين مقرعة، ثم خلع بسامرا يوم الجمعة لسبع خلون من رجب، وخلع ببغداد يوم الأحد عشرة خلت من رجب، وأخذت رقعة بخطه بخلع نفسه.
ولست بقين من رجب من هذه السنة - وقيل لثمان بقين منه - كانت وفاة إبراهيم بن جعفر المعروف بالمؤيد.
ذكر الخبر عن سبب وفاته

ذكر أن امرأة من نساء الأتراك جاءت محمد بن راشد المغربي، فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس؛ وركب محمد بن راشد إلى المعتز، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا، فسأله فأنكر، وقال: يا أمير المؤمنين؛ إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به كان في الحرب التي كانت، وأما المؤيد فلا. فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا بالقضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتًا لا أثر به ولا جرح، وحمل إلى أمه إسحاق - وهي أم أبي أحمد - على حمار، وحمل معه كفن وحنوط وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد.
وذكر أن المؤيد أدرج في لحاف سمور، ثم أمسك طرفاه حتى مات.
وقيل: إنه أقعد في حجر من ثلج، ونضدت عليه حجارة الثلج فمات بردًا.
ذكر الخبر عن مقتل المستعين

وفي شوال منها قتل أحمد بن محمد المستعين
ذكر الخبر عن قتله
ذكر أن المعتز لما هم بقتل المستعين، ورد كتابه على محمد بن عبد الله ابن طاهر بنكبته، وأمره بتوجيه أصحاب معاونه في الطساسيج، ثم ورد عليه منه بعد ذلك كتاب مع خادم يدعى سيما، يؤمر فيه بالكتاب إلى منصور ابن نصر بن حمزة - وهو على واسط - بتسليم المستعين إليه؛ وكان المستعين بها مقيمًا، وكان الموكل ابن أبي خميصة وابن المظفر بن سيسل ومنصور ابن نصر بن حمزة وصاحب البريد؛ فكتب محمد في تسليم المستعين إليه، ثم وجه - فيما قيل - أحمد بن طولون التركي في جيش، فأخرج المستعين لست بقين من شهر رمضان، فوافى به القاطول لثلاث خلون من شوال.
وقيل إن أحمد بن طولون كان موكلًا بالمستعين، فوجه سعيد بن صالح إلى المستعين في حمله، فصار إليه سعيد فحمله.
وقيل إن سعيدًا إنما تسلم المستعين من ابن طولون في القاطول بع ما صار به ابن طولون إليها، ثم اختلف في أمرهما، فقال بعضهم: قتله سعيد بالقاطول؛ فلما كان غد اليوم الذي قتله فيه أحضر جواريه وقال: انظرن إلى مولاكن قد مات، وقد قال بعضهم: بل أدخبه سعيد وابن طولون سامرا، ثم صار به سعيد إلى منزل له فعذبه حتى مات.
وقيل: بل ركب معه في زورق ومعه عدة حتى حاذى به فم دجيل، وشد في رجله حجرًا، وألقاه في الماء.
وذكر عن متطبب كان مع المستعين نصراني يقال له فضلان، أنه قال: كنت معه حين حمل، وأنه أخذ به على طريق سامرا، فلما انتهى إلى نهرٍ نظر إلى موكب وأعلام وجماعة، فقال لفضلان: تقدم فانظر من هذا؛ فإن كان سعيدًا فقد ذهبت نفسي؛ فتقدمت إلى أول الجيش، فسألتهم فقالوا: سعيد والحاجب، فوجعت إليه فأعلمته - وكان في قبة تعادله امرأة - فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهبت نفسي والله! وتأخرت عنه قليلًا.
قال: فليقه أول الجيش، فأقاموا عليه وأنزلوه ودابته، فضربوه ضربةً بالسيف، فصاح وصاحت دايته، ثم قتل؛ فلما قتل انصرف الجيش.
قال: فصرت إلى الموضع؛ فإذا هومقتول في سراويل بلا رأس؛ وإذا المرأة مقتولة، وبها عدة شربات، فطرحنا عليهما نحن تراب النهر حتر واريناهما، ثم انصرفنا.
قال: وأتي المعتز برأسه وهو يلعب بالشطرنج؛ فقيل: هذا رأس المخلوع فقال: ضعوه هنالك، ثم فرغ من لعبه، ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولى معونة البصرة.
وذكر عن بعض غلمان المستعين أن سعيدًا لما استقبله أنزله، ووكل به رجلًا من الأتراك يقتله، فسأله، أن يمهله حتى يصلي ركعتين؛ وكانت عليه جبة، فسأل سعيد التركي الموكل بقتله أن يطلبها منه قبل قتله، ففعل ذلك، فلما سجد في الركعة الثانية قتله واحتز رأسه، وأمر بدفنه، وخفى مكانه.