وسار من نهر ميمون يريد السبخة التي كان هيأ فيها طليعةً؛ فلما صار إلى القادسية والشيفيا، سمع هنالك نعيرًا، ورأى رميًا وكان إذا سار يتنكب القرى فلم يدخلها، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى الشيفيا في جماعة؛ فيسأل أهلها أن يسلموا إليه قاتل الرجل من أصحابه في ممرة كان بهم، فرجع إليه، فأخبره أنهم زعموا أنه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميين ومنعهم له؛ فصاح بالغلمان، وأمرهم بانتهاب القريتين، فانتهب منهما مالًا عظيمًا؛ عينًا وورقًا وجوهرًا وحليًا وأواني ذهب وفضة، وسبي منهما يومئذ غلمانًا ونسوة، وذلك أول سبى سبى، ووقفوا على دار فيها أربعة عشر غلامًا من غلمان الشورج، قد سد عليهم باب؛ فأخذهم وأتى بمولى الهاشميين القاتل صاحبه فأمر محمد بن سلم بضرب عنقه، ففعل ذلك، وخرج من القريتين في وقت العصر، فنزل السبخة المعروفة ببرد الخيار.
فلما كان في وقت المغرب أتاه أحد أصحابه الستة، فأعلمه أن أصحابه، قد شغلوا بخمور وأنبذة وجدوها في القادسية، فصار ومعه محمد بن سلم ويحيى ابن محمد إليهم، فأعلمهم أن ذلك مما لا يجوز لهم، وحرم النبيذ في ذلك، اليوم عليهم، وقال لهم: إنكم تلاقون جيوشًا تقاتلونهم، فدعوا شرب النبيذ والتشاغل به، فأجابوه إلى ذلك؛ فلما أصبح جاءه غلام من السودان، يقال له قاقويه، فأخبره أن أصحاب رميس قد صاروا إلى شرقي دجيل، وخرجوا إلى الشط، فدعا علي بن أبان، فتقدم إليه أن يمضي بالزنج، فيوقع بهم؛ ودعا مشرقًا، فأخد منه اصطرلابًا، فقاس الشمس، ونظر في الوقت، ثم عبر وعبر الناس خلفه القنطرة التي على النهر المعروف ببرد الخيار؛ فلما صاروا في شريه، تلاحق الناس بعلي بن أبان، فوجدوا أصحاب رميس وأصحاب عيل على الشط، والدبيلا في السفن يرمون بالنشاب، فحملوا عليهم فقتلوا منهم متلة عظيمة، وهبت ريح من غربي دجيل، فحملت السفن، فأذنتها من الشط، فنزل السودان إليها، فقتلوا من وجدوا فيها، وانحاز رميس ومن كان معه إلى نهر الدير على طري أقشى، وترك سفنه لم يحركها ليظن أنه ميم، وخرج عقيل وصاحب ابن أبي عون إلى دجلة مباديرين، لا يلويان على شئ.
وأمر صاحب الزنج بإخراج ما في السفن التي فيها الدبيلا؛ وكانت مقرونًا بعضها ببعض، فنزل فيها قاقويه ليفتشها، فوجد رجلًا من الدبيلا، فحاول إخراجه فامتنع، وأهوى إليه بسرتى كان معه؛ فضربه ضربة على ساعده، فقطع بعا عرقًا من عروقه، وضربه ضربة على رجله، فقطعت عصبة من عصبه، وأهوى له قاقويه، فضربه ضربة على هامته فسط، فأخذ بشعره، واحتز رأسه؛ فأتى به صاحب الزنج، فأمر له بدينار خفيف، وأمر يحيى بن محمد أن يقوده على مائة من السودان. ثم سار صاحب الزنج إلى قرية تعرف بالمهلبي تقابل قياران، ورجع السودان الذين كانوا اتبعوا عقيلًا وخليفة ابن أبي عون، وقد أخذ سميرية فيها ملاحان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: اتبعناهم فطرحوا أنفسهم ألى الشط، وتركوا هد السميرية، فجئنا بها، فسأل الملاحين، فأخبراه أن عيلًا حملهما على اتباعه قهرًا، وحبس نساءهما حتى اتبعاه، فقالا: إن عقيلًا وعدهم مالًا، فتبعوه؛ فسألهما عن السفن الواقعة، فقالا: هذه سفن رميس ود تركها، وهرب في أول النهار، فرجع حتى إذا حاذاها أمر السودان فعبرا، فأتوه بها، فأنهبهم ما كان فيها، وأمر بها فأحرقت، ثم صار إلى القرية المعروفة بالمهلبية واسمها تنغت، فنزل قريبًا منها، وأمر بانتهابها وإحراقها؛ فانتهبت وأحرقت، وسار على نهر الماديان، فوجد فيها تمورًا، فأمر بإحراقها.
وكان لصاحب الزنج بعد ذلك أمور من عيشه هو وأصحابه في تلك الناحية تركنا ذكرها، إذ لم تكن عظيمة، وإن كان كل أموره كانت عظيمة.
ثم كان من عظيم ما كان له من الوقائع مع أصحاب السطان وقعة كانت مع رجل من الأتراك يكنى أبا هلال في سوق الريان، ذكر عن قائد من قواده يقال له ريحان، أن هذا التركي وافاهم في هذا السوق، ومعه زهاء أربعة آلاف رجل أو يزيدون؛ وفي مقدمته عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول، وأن السودان حملوا عليه حملة صادقة، وأن بعض السودان ألقى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا معه في يده فصرعه، وانهزم القوم، وتلاحق السودان، فقتلوا من أصحاب أبي هلال زهاء ألف وخمسمائة. وإن بعضهم اتبع أبا هلال ففاته بنفسه على دابة عرى، وحال بينهم وبين من أفلت ظلمة الليل، وأنه لما أصبح أمر بتتبعهم، ففعلوا ذلك فجاءوا بأسرى ورءوس فقتل الأسرى كلهم، ثم كانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة مع أصحاب السلطان، هزمهم فيها وظفر بهم، وكان مبتدأ الأمر في ذلك - فيما ذكر عن قائد لصاحب الزنج من السودان يقال له ريحان - أنه قال: لما كان في بعض الليل من ليالي هذه السنة التي ذكرنا أنه ظهر فيها، سمع نباح كلب في أبواب تعرف بعمرو بن مسعدة، فأمر بتعرف الموضع الذي يأتي منه النباح، فوجه لذلك رجلًا من أصحابه، ثم رجع فأخبره أنه لم ير شيئًا؛ وعاد النباح. قال: ريحان: فدعاني، فقال لي: صر إلى موضع هذا الكلب النابح، فإنه إنما نبح شخصًا يراه، فصرت فإذا أنا بالكلب على المسناة، ولم أر شيئًا، فأشرفت فإذا برجل قاعد في درجات هنالك، فكلمته فلما سمعني أفصح بالعربية كلمني، فقال: أنا سيران بن عفو الله، أتيت صاحبكم بكتب من شيعته بالبصرة، وكان سيران هذا أحد من صحب صاحب الزنج أيام مقامه بالبصرة، فأخذته فأتيته به، فرأ الكتب التي كانت معه، وسأله عن الزينبي وعن عدة من كان معه، فقال: إن الزينبي قد أعد لك الخول والمطوعة والبلالية والسعدية، وهم خل كثير، وهو علة لقائك بهم ببيان، فقال له: اخفض صوتك، لئلا يرتاع الغلمان بخبرك، وسأله عن الذي يقود هذا الجيش، فقال: قد ندب لذلك المعروف بأبي منصور؛ وهو أحد موالي الهاشميين: قال له: أفرأيت جمعهم؟ قال: نعم؛ وقد أعدّوا الشرط لكتف من ظفروا به من السودان، فأمره بالانصراف إلى الموضع الذي يكون فيه مامه، فانصرف سيران إلى علي بن أبان ومحمد بن سلم ويحيى بن محمد، فجعل يحدثهم إلى أن أسفر الصبح، ثم سار صاحب الزنّج إلى أن أشرف عليهم. فلما انتهى إلى مؤخّر ترسي وبرسونا وسندادان بيان، عرض له قوم يريدون قتله، فأمر علي بن أبان فأتاهم فهزمه، وكان معهم مائة أسود، فظفر بهم. قال ريحان: فسمعته يقول لأصحابه: من أمارات تمام أمركم ما ترون من إتيان هؤلاء القوم بعبيدهم فيسّلمونهم إليكم؛ فيزيد الله في عددكم. ثم سار حتى صار إلى بيان.
قال ريحان: فوجّهني وجماعة من أصحابه إلى الحجر لطلب الكاروان وعسكرهم في طرف النخل في الجانب الغربي من بيان، فوجّهنا إلى الموضع الذي أمرنا بالمصير إليه، فألفينا هناك ألفًا وتسعمائة سفينة، ومعها قوم من المطوّعة قد احتبسوها، فلما رأونا خلّوا عن السفن، وعبروا سلبان عرايا ماضين نحو جوبك. وسقنا السفن حتى وافيناه بها، فلما أتيناه بها أمر فبسط له على نشز من الأرض وقعد، وكان في السفن قوم حجّاج أرادوا سلوك طريق البصرة؛ فناظرهم بقيّة يومه إلى وقت غروب الشمس، فجعلوا يصدقونه في جميع قوله، وقالوا: لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك، فردّهم إلى سفنهم؛ فلما أصبحوا أخرجهم، فأحلفهم ألّا يخبروا أحدًا بعدّة أصحابه، وأن يقللوا أمره عند من سألهم عنه وعرضوا عليه بساطًا كان معهم، فأبدله ببساط كان معه، واستحلفهم أنه لا مال للسلطان معهم ولا تجارة، فلوا: معنا رجل من أصحاب السلطان، فأمر بإحضاره، فأحضر، فحلف الرجل أنه ليس من أصحاب السلطان، وأنه رجل معه نقل أراد به البصرة، فأحضر صاحب السفينة التي وجد فيها، فحلف له أنه إنما اتّجر فيه، فحمله فخلي سبيله، وأطلق الحجاج فذهبوا، وشرع أهل سليمانان على بيان بإزائه في شرقي النهر؛ فكلمهم أصحابه وكان فيهم حسين الصيدناني الذي كان صحبه بالبصرة؛ وهو أحد الأربعة الذين ظهروا بمسجد عبّاد، فلحق به يومئذ؛ فقال له: لم أبطأت عني إلى هذه الغاية؟ قال: كنت مختفيًا، فلما خرج هذا الجيش دخلت في سواده. قال: فأخبرني عن هذا الجيش، ما هم؟ وما عدّة أصحابه؟ قال: خرج من الخول بحضرتي ألف ومائتا مقاتل، ومن أصحاب الزينبي ألف، ومن البلاليّة والسعديّة زهاء ألفين، والفرسان مائتا فارس. ولما صاروا بالأبلّة وقع بينهم وبين أهلها اختلاف؛ حتى تلاعنوا، وشتم الحول محمد بن أبي عون، وخلفتهم بشاطىء عثمان وأحسبهم مصبّحتك في غد. قال: فكيف يريدون أن يفلوا إذا أتونا؟ قال: هم على إدخال الخيل من سندادان بيان، ويأتيك رجالتهم من جنبّي النهر.
فلما أصبح وجّه طليعةً ليعرف الخبر، واختاره شيخًا ضعيفًا زمنًا لئلا يعرض له؛ فلم يرجع إليه طليعته. فلمّا أبطًا عنه وجّه فتحًا الحجام ومعه ثلثمائة رجل، ووجّه يحيى بن محمد إلى سندادان، وأمره أن يخرحج في سوق بيان، فجاءه فتح فأخبره أن القوم مقبلون إليه في جمع كثير، وأنهم قد أخذوا جنتي النهر، فسأل عن المد، فقيل: لم يأت بعد، فقال: لم تدخل خيلهم بعد، وأمر محمد بن سلم وعلي بن ابن أن يقعدا لهم في النخل، وقعد هو على جبل مشرف عليهم، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال حتى صاروا إلى الأرض المعروفة بأبي العلاء البلخي، وهي عطفة على دبيران، فأمر الزنج فكبروا ثم حملوا عليهم فوافوا بهم دبيران، ثم حمل الخول يقدمهم أبو العباس بن أيمن المعروف بأبي الكباش وبشير القيسي، فتراجع الزنج حتى بلغوا الجبل الذي هو عليه، ثم رجعوا عليهم، فثبتوا لهم، وحمل أبو الكباش على فتح الحجام فقتله، وأدرك غلامًا يال له دينار من السودان فضربه، ضربات، ثم حمل السوادن عليهم، فوافوا بهم شاطئ بيان، وأخذتهم السيوف.
قال ريحان: فعهدي بمحمد بن سلم وقد ضرب أبا الكباش، فألى نفسيه في الطين، فلحقه بعض الزنج، فاحتز رأسه. وأما علي بن أبان؛ فإنه كان ينتحل قتل أبي الكباش وبشير القيسي، وكان يتحدث عن ذلك اليوم فيول: كان أول من لقبني بشير القيسي، فضربني وضربته، فوقعت ضربته في ترسي، ووقعت ضربتي في صدره وبطنه؛ فانتظمت جوانح صدره، وفريت بطنه، وسقط فأتيته، فاحترزت رأسه. ولقيني أبو الكباش، فشغل بي، وأتاه بعض السودان من ورائه فضربه بعصا كانت في يده على ساقيه؛ فكسرهما فسقط، فأتيته ولا امتناع به، فقتله واحترزت رأسه، فأتيت بالرأسين صاحب الزنج.
قال محمد بن الحسن بن سهل: سمعت صاحب الزنج يخبر أن عليًا أتاه برأس أبي الكباش ورأس بشير القيسي - قال: ولا أعرفهما - فال: كان هذان يقدمان القوم، فقتلهما فانهزم أصحابهما لما رأوا مصرعهما.
قال ريحان - فيما ذكر عنه: وانهزم الناس فذهبوا كل مذهب، واتبعهم السودان إلى نهر بيان، وقد جزر النهر، فلما وافوه انغمسوا في الوحل، فقتل أكثرهم. قال: وجعل السودان يمرون بصاحبهم دينار الأسود الذي كان أبو الكباش ضربه، وهو جريح ملقى، فيحسبونه من الخول فيضربونه بالمناجل حتى أثخن، ومر به من عرفه، فحمل إلى صاحب الزنج، فأمر بمداواة كلومه.