وفي هذه السنة أقبل محمد بن عبد الله الخجستاني يريد العراق بزعمه؛ حتى صار إلى سمنان، وتحصن منه أهل الري وحصنوا مدينتهم، ثم انصرف من سمان راجعًا إلى خراسان.
وفيها انصرف خلق كثير من طريق مكة في البدأة لشدة الحر، ومضى خلق كثير، فمات ممن مضى خلق كثير من شدة الحر، وكثير منهم من العطش، وذلك كله في البدأة، وأوقعت فزارة فيها بالتجار، فأخذوا - فيما ذكر - منهم سبعمائة حمل بز.
وفيها اجتمع بالموسم عامل لأحمد بن طولون في خيله وعامل لعمرو بن الليث في خيله، فنازع كل واحد منهما صاحبه في ركز علمه على يمين المنبر في مسجد إبراهيم خليل الرحمن، وادعى كل واحد منهما أن الولاية لصاحبه، وسلا السيوف، فخرج معظم الناس من المسجد، وأعان موالي هارون ابن محمد من الزنج صاحب عمرو بن الليث، فوقف حيث أراد، وقصر هارون - وكان عامل مكة - الخطبة وسلم الناس، وكان المعروف بأبي المغيرة المخزومي حيئذ يحرس في جمعية.
وفيها نفي الطباع عن سامرا.
وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم ووزن الدينار منها عشرة دوانيق، ووزن الدرهم ثمانية دوانيق، عليه: " الملك والقدرة لله، والحول والقوة بالله، لا إله إلا الله محمد رسول الله: وعلى جانب منه: " المعتمد على الله باليمن والسعادة " وعلى الجانب الآخر " " الوافى أحمد بن عبد الله ".
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر استئمان جعفر بن إبراهيم إلى أبي أحمد الموفق

فمن ذلك ما كان من استئمان جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان إلى أبي أحمد الموفق في يوم الثلاثاء في غرة المحرم منها، وذكر أن السبب كان في ذلك الوقعة التي كانت لأبي أحمد في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين التي ذكرناها قبل؛ وهرب ريحان بن صالح المغربي من عسكر الفاجر وأصحابه ولحاقه بأبي أحمد، فنخب قلب الخبيث لذلك؛ وذلك أن السجان كان - فيما قيل - أحد ثقاته، فأمر أبو أحمد للسجان هذا بخلع وجوائز وصلات وحملان وأرزاق، وأقيمت له أنزال، وضم إلى أبي العباس، وأمره بحمله في الشذاة إلى إزاء قصر الفاسق؛ حتى رآه وأصحابه، وكلمهم السجان، وأخبرهم أنهم في غرور من الخبيث، وأعلمهم ما قد وقف عليه من كذبه وفجوره؛ فاستأمن في هذا اليوم الذي حمل فيه السجان من عسكر الخبيث خلق كثير من قواده الزنج وغيرهم، وأحسن إليهم، وتتابع الناس في طلب الأمان والخروج من عند الخبيث، ثم أقام أبو أحمد بعد الوقعة التي ذكرت أنها كانت لليلة بقيت من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين، لا يعبر إلى الخبيث لحرب، يجم بذلك أصحابه إلى شهر ربيع الآخر.
وفي هذه السنة صار عمرو بن الليث إلى فارس لحرب عامله محمد بن الليث عليها؛ فهزمه عمرو، واستباح عسكر، وأفلت محمد بن الليث في نفر، ودخل عمرو إصطخر، فانتهبها أصحابه، ووجه عمرو في طلب محمد بن الليث فظفر به، وأتى به أسيرًا، ثم صار عمرو إلى شيراز فأقام بها.
وفي شهر ربيع الأول منها زلزلت بغداد لثمان خلون منه، وكان بعد ذلك ثلاثة أيام مطر شديد، ووقعت بها أربع صواعق.
وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه، فخرج إليه أبوه أحمد إلى الاسكندرية، فظفر به ورده إلى مصر فرجع معه إليها.
ذكر خبر عبور الموفق إلى مدينة الزنج

ولأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر منها عبر أبو أحمد الموفق إلى مدينة الفاجر، بعد أن أوهى قوته في مقامه بمدينة الموفقية، بالتضييق عليه والحصار، ومنعه وصول المير إليه؛ حتى استأمن إليه خلق كثير من أصحابه؛ فلما أراد العبور إليها أمر - فيما ذكر - ابنه العباس بالقصد للموضع الذي كان قصده من ركن مدينة الخبيث الذي يحوطه بابنه وجلة أصحابه وقواده، وقصد أبو أحمد موضعًا من السور فيما بين النهر المعروف بمنكى والنهر المعروف بابن سمعان، وأمر صاعدًا وزيره بالقصد لفوهة النهر المعروف بجرى كور، وتقدم إلى زيرك في مكانفته، وأمر مسرورًا البلخي بالقصد لنهر الغربي، وضم إلى كل واحد منهم من الفعلة جماعة لهدم ما يليهم من السور، وتقدم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور، وألا يدخلوا مدينة الخبيث. ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها القواد شذوات فيها الرماد، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة والرجالة الذين يخرجون للمدافعة عنهم، فثلم في السور ثلم كثيرة، ودخل أصحاب أبي أحمد مدينة الفاجر من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب أبي أحمد، وأتبعوهم حتى وغلوا في طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، وفرقت بينهم السكك والفجاج، فانتهوا إلى أبعد من الموضع الذي كانوا وصلوا إليه في المرة التي قبلها، وحرقوا وقتلوا.
ثم تراجع أصحاب الخبيث، فشدوا على أصحاب أبي أحمد، وخرج كمناؤهم من نواح يهتدون لها ولا يعرفونها الآخرون، فتحير من كان داخل المدينة من أصحاب أبي أحمد، ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحو دجلة حتى وافاها أكثرهم، فمنهم من دخل السفينة، ومنهم من قذف نفسه في الماء، فأخذه أصحاب الشذا، ومنهم من قتل وأصاب أصحاب الخبيث أسلحة وأسلابًا، وثبت جماعة من غلمان أبي أحمد بحضرة دار ابن سمعان، ومعهم راشد وموسى بن أخت مفلح، في جماعة من قواد الغلمان كانوا آخر من ثبت من الناس، ثم أحاط بهم الزنج وكثروهم، وحالوا بينهم وبين الشذا، فدافعوا عن أنفسهم وأصحابهم، حتى وصلوا إلى الشذا فركبوها.
وأقام نحو من ثلاثين غلامًا من الديلمة في وجوه الزنج وغيرهم، يحمون الناس، ويدفعون عنهم حتى سلموا، وقتل الثلاثون من الديلمة عن آخرهم، بعد ما نالوا من الفجار ما أحبوا، وعظم على الناس ما نالهم في هذه الوقعة، وانصرف أبو أحمد بمن معه إلى مدينته الموفقية، وأمر يجمعهم وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره، والافتيات عليه في رأيه وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لخلاف أمره بعد ذلك، وأمر بإحصاء المفقودين من أصحابه فأحصوا له، فأتى بأسمائهم، وأقر ما كان جاريًا على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع ذلك منهم، وزاد في صحة نياتهم لما رأو من حياطته خلف من أصيب في طاعته.
ذكر وقعة أبي العباس بمن كان يمد الزنج من الأعراب

وفيها كانت لأبي العباس وقعة بقوم من الأعراب الذين كانوا يميرون الفاسق اجتاحهم فيها.
ذكر الخبر عن السبب الذي كانت من أجله هذه الوقعة
ذكر أن الفاسق لما خرب البصرة ولاها رجلًا من قدماء أصحابه يقال له أحمد بن موسى بن سعيد المعروف بالقلوص؛ فكان يتولى أمرها، وصارت فرصة للفاسق يردها الأعراب والتجار، ويأتونها بالمير وأنواع التجارات، ويحمل ما يردها إلى عسكر الخبيث، حتى فتح أبو أحمد طهيثا، وأسر القلوص، فولى الخبيث ابن أخت القلوص - يقال له ملك بن بشران - البصرة وما يليها. فلما نزل أبو أحمد فرات البصرة خاف الفاجر إيقاع أبي أحمد بمالك هذا، وهو يومئذ نازل بسيحان على نهر يعرف بنهر ابن عتبة. فكتب إلى مالك يأمره بنقل عسكره إلى النهر المعروف بالديناري، وأن ينفذ جماعة ممن معه لصيد السمك وإدرار حمله إلى عسكره، وأن يوجه قومًا إلى الطريق التي يأتي منها الأعراب من البادية، ليعرف ورود من يرد منهم بالمير، فإذا وردت رفقة من الأعراب خرج إليها بأصحابه، حتى يجمل ما تأتي به إلى الخبيث؛ ففعل ذلك مالك ابن أخت القلوص، ووجه إلى البطيحة رجلين من أهل قرية بسمى، يعرف أحدهما بالريان والآخر الخليل، كانا مقيمين بعسكر الخبيث، فنهض الخليل والريان وجمعا جماعة من أهل الطف، وأتيا قرية بسمى، فأقاما بها يحملان السمك من البطيحة أولًا أولًا إلى عسكر الخبيث في الزواريق الصغار التي تسلك بها الأنهار الضيقة والأرخنجان التي لا تسلكها الشذا والسميريات، فكانت مواد سمك البطيحة متصلة إلى عسكر الخبيث بمقام هذين الرجلين بحيث ذكرنا؛ واتصلت أيضًا مير الأعراب وما كانوا يأتون به من البادية، فاتسع أهل عسكره، ودام ذلك إلى أن استأمن إلى الموفق رجل من أصحاب الفاجر الذين كانوا مضمومين إلى القلوص، يقال له علي بن عمر، ويعرف بالنقاب، فأخبر بخبر مالك بن بشران ومقامه بالنهر المعروف بالديناري، وما يصل إلى عسكر الخبيث بمقامه هناك من سمك البطيحة وجلب الأعراب. فوجه الموفق زيرك مولاه في الشذا والسميرايات إلى الموضع الذي به ابن أخت القلوص، فأوقع به وبأهل عسكره، فقتل منهم فريقًا وأسر فريقًا، وتفرق أهل ذلك العسكر، وانصرف مالك إلى الخبيث مفلولًا، فرده الخبيث في جمع إلى مؤخر النهر المعروف باليهودي، فعسكر هنالك بموضع قريب من النهر المعروف بالفياض، فكانت المير تتصل بعسكر الخبيث مما يلي سبخة الفياض، فانتهى خبر مالك ومقامه بمؤخر نهر اليهودي ووقع المير من تلك الناحية إلى عسكر الفاجر إلى الموفق، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى نهر الأمير، والنهر المعروف بالفياض لتعرف حقيقة ما انتهى إليه من ذلك، فنفذ الجيش، فوافق جماعة من الأعراب يرأسهم رجل قد أورد من البادية إبلًا وغنمًا وطعامًا، فأوقع بهم أبو العباس، فقتل منهم جماعة وأسر الباقين، ولم يفلت من القوم إلا رئيسهم؛ فإنه سبق على حجر كانت تحته، فأمعن هربًا، وأخذ كل ما كان أولئك الأعراب أتوا به من الإبل والغنم والطعام؛ وقطع أبو العباس يد أحد الأسرى وأطلقه، فصار إلى معسكر الخبيث، فأخبرهم بما نزل به، فريع مالك بن أخت القلوص بما كان من إيقاع أبي العباس بهؤلاء الأعراب؛ فاستأمن إلى أبي أحمد، فأومن وحبى وكسى وضم إلى أبي العباس وأجريت له الأرزاق، وأقيمت له الأنزال. وأقام الخبيث مقام مالك رجلًا كان من أصحاب القلوص، ويقال له أحمد بن الجنيد وأمره أن يعسكر بالموضع المعروف بالدهرشير ومؤخر نهر أبي الخصيب، وأن يصير في أصحابه إلى ما يقبل من سمك البطيحة، فيحمله إلى عسكر الخبيث، وتأدى إلى أبي أحمد خبر أحمد بن الجنيد، فوجه قائدًا من قواد الموالي يقال له الترمدان في جيش، فعسكر بالجزيرة المعروفة بالروحية، فانقطع ما كان يأتي إلى عسكر الخبيث من سمك البطيحة، ووجه الموفق شهاب بن العلاء ومحمد بن الحسن العنبريين في خيل لمنع الأعراب من حمل المير إلى عسكر الخبيث، وأمر بإطلاق السوق لهم بالبصرة، وحمل ما يريدون امتياره من التمر؛ إذ كان ذلك سبب مصيرهم إلى عسكر الخبيث، فتقدم شهاب ومحمد لما أمر به، فأقاما بالموضع المعروف بقصر عيسى؛ فكان الأعراب يوردون إليهما ما يجلبونه من البادية ويمتارون التمر مما قبلهما.
ثم صرف أبو أحمد الترمدان عن البصرة، ووجه مكانه قائدًا من قواد الفراعنة، يقال له قيصر بن أرخوز إخشاد فرغانة، ووجه نصيرًا المعروف بأبي حمزة في الشذا والسميريات، وأمره بالمقام بفيض البصرة ونهر دبيس وأن يخترق نهر الأبلة ونهر معقل ونهر غربي، ففعل ذلك.