ذكر الخبر عن سبب ذلك وسبب وصولهم إليه
ذكر محمد بن الحسن، أن أبا أحمد لما برأ الجرح الذي كان أصابه، عاد للذي كان عليه من مغاداة الفاسق الحرب ومراوحته؛ وكان الخبيث قد أعاد بناء بعض الثلم التي ثلمت في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به، وركب في عشية من العشايا في أول وقت العصر؛ وقد كانت الحرب متصلة في ذلك اليوم مما يلي نهر منكى، والفسقة مجتمعون في تلك الناحية قد شغلوت أنفسهم بها، وظنوا أنهم لا يحاربون إلا فيها، فوافى الموفق وقد أعد الفعلة، وقرب على نهر منكى وناوش الفسقة فيه؛ حتى إذا استعرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير حتى ينتهوا إلى النهر المعروف بجوى كور، وهو نهر يأخذ من دجلة أسفل من النهر المعروف بنهر أبي الخصيب؛ ففعلوا ذلك؛ فوافى جوى كور، وقد خلا من المقاتلة والرجال، فقرب وأخرج الفعلة، فهدموا من السور ما كان يلي ذلك النهر، وصعد المقاتلة وولجوا النهر؛ فقتلوا فيه مقتلةً عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الفسقة، فانتهبوا ما كان فيها وأحرقوها، واستنفذوا عددًا من النساء اللواتي كن فيها، وأخذوا خيلًا من خيل الفجرة، فحملوها إلى غربي دجلة، فانصرف الموفق في وقت غروب الشمس بالظفر والسلامة، وغاداهم الحرب والقصد لهدم السور، فأسرع فيه حتى اتصل بدار المعروف بأنكلاي؛ وكانت متصلة بدار الخبيث؛ فلما أعيت الحيل الخبيث في المنع من هدم السور، ودفع أصحاب الموفق عن ولوج مدينته، أسقط في يديه؛ ولم يدر كيف يحتال لحسم ذلك، فأشار عليه علي بن أبان المهلبي بإجراء الماء على السباخ التي يسلكها أصحاب الموفق لئلا يجدوا إلى سلوكها سبيلًا، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يعوقهم بها عن دخول المدينة، فإن حملوا أنفسهم على اقتحامها فوقعت عليهم هزيمة، لم يسهل عليهم الرجوع إلى سفنهم؛ ففعلوا ذلك في عدة مواضع من مدينتهم، وفي الميدان الذي كان الخبيث جعله طريقًا حتى انتهت تلك الخنادق إلى قريب من داره. فرأى الموفق بعدما هيأ الله له من هدم سور مدينة الفاسق ما هيأ أن جعل قصده لطم الخنداق والأنهار والمواضع العورة كي تصلح فيها مسالك الخيل والرجالة. فرام ذلك، فحامى عنه الفسقة. ودامت الحرب وطالت ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمرٌ عظيم؛ حتى لقد عد الجرحى في بعض تلك الأيام زهاء ألفي جريح؛ وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كل فريق منهم عن إزالة من بإزائه عن موضعهم. فلما رأى ذلك الموفق قصد لإحراق دار الخبيث والهجوم عليها من دجلة، وكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث من المقاتلة والحماة عن داره؛ فكانت الشذا إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بالحجارة والنشاب والمقاليع والمجانيق والعرادات، وأذيب الرصاص، وأفرغ عليهم؛ فكان إحراق داره يتعذر عليهم لما وصفنا؛ فأمر الموفق بإعداد ظلال من خشب للشذا وإلباسها جلود الجواميس، وتغطية ذلك بالخيش المطلي بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق، فعمل ذلك، وطليت به عدة شذوات ورتب فيها جميعًا شجعاء غلمانه: الرامحة والناشبة، وجمعًا من حذاق النفاطين وأعدهم لإحراق دار الفاسق صاحب الزنج.
فاستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، وكان سبب استئمانه - فيما ذكر محمد بن الحسن - أنه كان ممن امتحن بصحبته، وهو لها كارهٌ على علم منه بضلالته. قال: وكنت له على ذلك مواصلًا، وكنا جميعًا ندبر الحيلة في التخلص، فيتعذر علينا، فلما نزل بالخبيث من الحصار ما نزل، وتفرق عنه أصحابه، وضعف أمره؛ شمر في الحيلة للخلاص، وأطلعني على ذلك، وقال: قد طبت نفسًا بألا أستصحب ولدًا وأهلًا، وأن أنجوا وحيدًا؛ فهل لك في مثل ما عزمت عليه؟ فقلت له، الرأي لك ما رأيت؛ إذ كنت إنما تخلف ولدًا صغيرًا لا سبيل للخائن عليه إلى أن يصول به، أو أن يحدث عليك فيد حدثًا يلزمك عاره، فأما أنا معي نساء يلزمني عارهن، ولا يسعني تعرضهن لسطوة الفاجر، فامض شأنك؛ فأخبره عني بما علمت من نيتي في مخالفة الفاجر وكراهة صحبته، وإن هيأ الله لي الخلاص بولدي، فأنا سريع اللحاق بك، وإن جرت المقادير فينا بشيء كنا معًا وصبرنا.
فوجه محمد بن سمعان وكيلًا له يعرف بالعراقي، فأتى عسكر الموفق، فأخذ له ما أراد من الأمان، وأعد له الشذا، فوافته في السبخة في اليوم الذي ذكرنا، فصار إلى عسكر الموفق. وأعاد الموفق محاربة الخبيث والقصد للإحراق من غد اليوم الذي استأمن فيه محمد بن سمعان؛ وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، في أحسن زي، وأكمل عدة، ومعه الشذوات المطلية بما وصفنا، وسائر شذواته وسميرياته، فيها مواليه وغلمانه والمعابر التي فيها الرجالة، فأمر الموفق ابنه أبا العباس بالقصد إلى دار محمد ابن يحيى المعروف بالكرنبائي، وهي بإزاء الخائن في شرقي النهر المعروف بأبي الخصيب، يشرع على النهر وعلى دجلة، وتقدم إليها في إحراقها وما يليها من منازل قواد الخائن، وشغلهم بذلك عن إنجاده ومعاونته، وأمر المرتبين في الشذا المظلة بالقصد، لما كان مطلًا على دجلة من رواشين الخبيث وأبنيته، ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور القصر، وحاربوا الفجرة أشد حرب ونضحوهم بالنيران، وصبر الفسقة وقاتلوا، فرزق الله النصر عليهم، فتزحزحوا عن تلك الرواشين والأبنية التي كانوا يحامون عليها، وأحرقها غلمان الموفق، وسلم من كان في الشذا مما كان الخبثاء يكيدونهم به من النشاب والحجارة وصب الرصاص المذاب وغير ذلك بالظلال التي كان اتخذها على الشذا، فكان ذلك سببًا لتمكنها من دار الخبيث.
وأمر الموفق من كان في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها من الغلمان، ورتب فيها آخرين، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما تهيأ ذلك عادت الشذوات المظلة إلى قصر الخبيث، فأمر الموفق من كان فيها بإحراق بيوت كانت تشرع على دجلة من قصر الفاسق، ففعلوا ذلك، فاضطرمت النار في هذه البيوت، واتصلت بما يليها من الستارات التي كان الخبيث ظل بها داره، وستور كانت على أبوابه، فقويت النار عند ذلك على الإحراق، وأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شئ مما كان في منزله من أمواله وذخائره وأثاثه وسائر أمتعته، فخرج هاربًا، وترك ذلك كله. وعلا غلمان الموفق قصر الخبيث مع أصحابهم؛ فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الأمتعة الفاخرة والذهب والفضة والجوهر والحلي وغير ذلك، واستنفذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث استرقهن، ودخل غلمان الموفق سائر دور الخبيث ودور ابنه أنكلاي، فأضرموها نارًا، وعظم سرور الناس بما هيأ الله لهم في هذا اليوم، فأقام جماعة يحاربون الفسقة في مدينتهم وعلى باب قصر الخبيث، مما يلي الميدان، فأثخنوا فيهم القتل والجراح والأسر، وفعل أبو العباس في دار المعروف بالكرنبائي وما يتصل بها من الإحراق والهدم والنهب مثل ذلك. وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة حديد عظيمة وثيقة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، وحازها، فحملت في بعض شذواته وانصرف الموفق بالناس صلاة المغرب بأجمل ظفر، وقد نال الفاسق في ذلك اليوم في نفسه وماله وولده وما كان غلب عليه من نساء المسلمين مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتيت الشمل والمصيبة في الأهل والولد، وجرح ابنه المعروف بأنكلاي في هذا اليوم جراح شديدة في بطنه أشفى منه على التلف.
ذكر الخبر عن غرق نصير المعروف بأبي حمزة

وفي غد هذا اليوم وهو يوم الأحد لعشر بقين من شعبان من هذه السنة غرق نصير.
ذكر سبب غرقه
ذكر محمد بن الحسن أنه لما كان غد هذا اليوم باكر الموفق محاربة الخبيث، وأمر نصيرًا المعروف بأبي حمزة بالقصد لقنطرة كان الخائن عملها بالسياج على النهر المعروف بأبي الخصيب، دون الجسرين اللذين اتخدهما عليه، وأمر زيرك بإخراج أصحابه مما يلي دار الجبائي لمحاربة من هناك من الفجرة، وأخرج جمعًا من قوادها مما يلي دار أنكلاي لمحاربتهم أيضًا، فتسرع نصير، فدخل نهر أبي الخصيب في أول المد في عدة من شذواته، فحملها المد فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات موالي الموفق وغلمانه ممن لم يكن أمر بالدخول، فحملهم المد فألقاهم على شذوات نصير، فصكت الشذوات بعضها بعضًا؛ حتى لم يكن للاشتيامين والجذافين فيها حيلة ولا عمل. ورأى الزنج ذلك، فاجتمعوا على الشذوات، وأحاطوا بها من جانبي نهر أبي الخصيب، فألقى الجذافون أنفسهم في الماء ذعرًا ووجلًا، ودخل الزنج الشذوات، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وحاربهم نصير في شذواته حتى خاف الأسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق في يومه يحارب الفسقة، وينهب ويحرق منازلهم، ولم يزل باقي يومه مستعليًا عليهم؛ وكان ممن حامى على قصر الخائن يومئذ وثبت في أصحابه سليمان بن جامع، فلم تزل الحرب بين أصحاب الموفق وبينه، وهو مقيم بموضعه لم يزل عنه إلى أن خرج في ظهره كمين من غلمان الموفق السودان، فانهزم لذلك، واتبعه الغلمان يقتلون أصحابه، ويأسرون منهم، وأصابت سليمان في هذا الوقت جراحة في ساقه، فهوى لفيه في موضع؛ قد كان الحريق ناله ببعض جمر فيه، فاحترق بعض جسده، وحامى عليه جماعة من أصحابه، فنجا بعد أن كاد الأسر يحيط به، وانصرف الموفق ظافرًا سالمًا، وضعفت الفسقة، واشتد خوفهم لما رأوا من إدبار أمرهم، وعرضت لأبي علة من وجع المفاصل؛ فأقام فيهم بقية شعبان وشهر رمضان وأيامًا من شوال ممسكًا عن حرب الفاسق. فلما استبل من علته وتماثل، أمر بإعداد ما يحتاج إليه للقاء الفسقة، فتأهب لذلك جميع أصحابه.
وفي هذه السنة كانت وفاة عيسى بن الشيخ بن السليل.
وفيها لعن ابن طولون المعتمد في دار العامة، وأمر بلعنه على المنابر، وصار جعفر المفوض إلى مسجد الجامع يوم الجمعة، ولعن ابن طولون وعقد لإسحاق ابن كنداج على أعمال ابن طولون، وولي من باب الشماسية إلى إفريقية وولي شرطة الخاصة.
وفي شهر رمضان منها كتب أحمد بن طولون إلى أهل الشأم يدعوهم إلى نصر الخليفة، ووجد فيجٌ يريد ابن طولون معه كتب من خليفته، جواب بأخبار، فأخذ جواب فحبس وأخذ له مال ورقيق ودواب.
ولإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها عقد جعفر المفوض لصاعد بن مخلد على شهرزور وداباذ والصامغان وحلوان وماسبذان ومهرجا نقذف وأعمال الفرات، وضم إليه قواد موسى بن بغا خلا أحمد بن موسى وكيغلغ وإسحاق بن كنداجيق وأساتكين، فعقد صاعد للؤلؤ على ما عهد له عليه من ذلك المفوض يوم السبت لثمان بقين من شوال، وبعث إلى ابن أبي الساج بعقد من قبله على العمل الذي كان يتولاه، وكان يتولى الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق بن مالك من قبل هارون بن الموفق، وكان شخص إليها في شهر رمضان، فلما ضم ذلك إلى صاعد أقره صاعد على ما كان إليه من ذلك.
وفي آخر شوال منها دخل ابن الساج رحبة طوق بن مالك بعد أن حاربه أهلها، فغلبهم وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشأم. ثم صار ابن أبي الساج إلى قرقيسياء؛ فدخلها وتنحى عنها ابن صفوان العقيلي.
ذكر الخبر عن الوقعة التي كانت بين الموفق وبين الزنج
وفي يوم الثلاثاء لعشر خلون من شوال من هذه السنة، كانت بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة في مدينة الفاسق أثر فيها آثارًا، وصل بها إلى مراده منها.
ذكر السبب في هذه الوقعة وما كان فيها:
ذكر محمد بن الحسن أن الخبيث عدو الله كان في مدة اشتغال الموفق بعلته أعاد القنطرة التي كانت شذوات نصير لججت فيها، وزاد فيها ما ظن أنه قد أحكمها، ونصب دونها أدقال ساج وصل بعضها ببعض، وألبسها الحديد، وسكر أمام ذلك سكرًا بالحجارة ليضيق المدخل على الشذا، وتحتد جرية الماء في النهر المعروف بأبي الخصيب فيهاب الناس دخوله، فندب الموفق قائدين من قواد غلمانه في أربعة آلاف من الغلمان، وأمرهما أن يأتيا نهر الخصيب؛ فيكون أحدهما في شرقيه والآخر في غربيه؛ حتى يوافيا القنطرة التي أصلحها الفاجر وما عمل في وجهها من السكر فيحاربا أصحاب الخبيث حتى يجلياهم عن القنطرة، وأعد معهما النجارين والفعلة لقطع القطرة والبدود التي كانت جعلت أمامها، وأمر بإعداد سفن محشوة بالقصب المنصوب عليه النفط، لتدخل ذلك النهر المعروف بأبي الخصيب، وتضرم نارًا لتحترق بها القنطرة في وقت المد. فركب الموفق في هذا اليوم في الجيش حتى وافى فوهة نهر أبي الخصيب، وأمر بإخراج المقاتلة في عدة مواضع من أعلى عسكر الخبيث وأسفله، ليشغلهم بذلك عن التعاون على المنع عن القنطرة، وتقدم القائدان في أصحابهما، وتلقاهما أصحاب الخائن من الزنج وغريهم، ويقودهم ابنه أنكلاي وعلي بن المهلبي وسليمان بن جامع، فاشتكت الحرب بين الفريقين، ودامت، وقاتل الفسقة أشد قتال، محاماةً عن القنطرة، وعلموا ما عليهم في قطعها من الضرر، وأن الوصول إلى ما بعدها من الجسرين العظيمين اللذين كان الخبيث اتخذهما على نهر أبي الخصيب سهل مرامه، فكثر القتل والجراح بين الفريقين، واتصلت الحرب إلى وقت صلاة العصر. ثم إن غلمان الموفق أزالوا الفسقة عن القنطرة وجاوزوها، فقطعها النجارون والفعلة، ونقضوها وما كان اتخذ من البدود التي ذكرناها.