فحاربوه حربًا شديدًا، فساءلهم: وقال: أفيكم السلطان؟ قالوا: ليس معنا سلطان، ونحن الحاج، فقال لهم: فامضوا فلست أريدكم. فلما سارت القافلة تبعها فأوقع بها، وجعل أصحابه ينخسون الجمال بالرماح، ويبعجونها بالسيوف، فنفرت، واختلطت القافلة، وأكب أصحاب الخبيث على الحاج يقتلونهم كيف شاءوا، فقتلوا الرجال والنساء، وسبوا من النساء من أرادو، واحتووا على ما كان في القافلة، وقد كان لقي بعض من أفلت من هذه القافلة علان بن كشمرد، فسأله عن الخبر، فأعلمه ما نزل بالقافلة الخراسانية، وقال له: ما بينك وبين القوم إلا قليل، والليلة أو في غد توافى القافلة الثانية، فإن رأوا علما للسلطان قويت أنفسهم. والله الله فيهم! فرجع علان من ساعته، وأمر من معه بالرجوع، وقال: لا أعرض أصحاب السلطان للقتل، ثم أصعد زكرويه، ووافته القافلة الثانية.
وقد كان السلطان كتب إلى رؤساء القافلتين الثانية والثالثة ومن كان فيهما من القواد والكتاب مع جماعة من الرسل الذين تنكبوا طريق الجادة بخبر الفاسق وفعله بالحاج، ويأمرهم بالتحرز منه، والعدول عن الجادة نحو واسط والبصرة، أو الرجوع إلى فيد أو إلى المدينة، إلى أن يلحق بهم الجيوش. ووصلت الكتب إليهم فلم يسمعوا ولم يقيموا، ولم يلبثوا.
وتقدم أهل القافلة الثانية وفيها المبارك القمى وأحمد بن نصر العقيلي وأحمد بن علي بن الحسين الهمداني، فوافوا الفجرة، وقد رحلوا عن واقصة، وعوروا مياهها، ومثلوا بركها وبئارها بجيف الإبل والدواب التي كانت معهم، مشققة بطونها، ووردوا منزل العقبة في يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من المحرم، فحاربهم أصحاب القافلة الثانية.
وكان أبو العشائر مع أصحابه في أول القافلة ومبارك القمى فيمن معه في ساقتها، فجرت بينهم حرب شديدة حتى كشفوهم، وأشرفوا على الظفر بهم، فوجد الفجرة من ساقتهم غرة، فركبوهم من جهتها، ووضعوا رماحهم في جنوب إبلهم وبطونها، فطحنتهم الإبل وتمكنوا منهم، فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم، إلا من استعبدوه.
ثم أنفذوا إلى ما دون العقبة بأميال فوارس لحقوا المفلتة من السيف، فأعطوهم الأمان، فرجعوا فقتلوهم أجمعين، وسبوا من النساء ما أحبوا، واكتسحوا الأموال والأمتعة.
وقتل المبارك القمى والمظفر ابنه، وأسر أبو العشائر، وجمع القتلى، فوضع بعضهم على بعض، حتى صاروا كالتل العظيم.
ثم قطعت يدا أبي العشائر ورجلاه، وضربت عنقه، وأطلق من النساء من لم يرغبوا فيه، وأفلت من الجرحى قوم وقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضوا؛ فمنهم من مات، ومنهم من نجا وهم قليل.
وكان نساء القرامطة يطفن مع صبيانهم في القتلى يعرضون عليهم الماء، فمن كلمهم أجازوا عليه.
وقيل أنه كان في القافلة من الحاج زهاء عشرين ألف رجل، قتل جميعهم غير نفر يسير ممن قوى على العدو، فنجا بغير زاد ومن وقع في القتل وهو مجروح، وأفلت بعد، أو من استعبدوه لخدمتهم.
وذكر أن الذي أخذوا من المال والأمتعة الفاخرة في هذه القافلة قيمة ألفي ألف دينار.
وذكر عن بعض الضرابين أنه قال: وردت علينا كتب الضرابين بمصر أنكم في هذه السنة تستغنون، قد وجه آل ابن طولون والقواد المصريون الذين أشخصوا إلى مدينة السلام، ومن كان في مثل حالهم في حمل ما لهم بمصر إلى مدينة السلام، وقد سبكوا آنية الذهب والفضة والحلى نقارًا، وحمل إلى مكة ليوافوا به مدينة السلام مع الحاج، فحمل، في القوافل الشاخصة إلى مدينة السلام، فذهب ذلك كله.
وذكر أن القرامطة بينا هم يقتلون وينهبون هذه القافلة يوم الاثنين، إذ أقبلت قافلة الخراسانية، فخرج إليهم جماعة من القرامطة، فراقعوهم، فكان سبيلهم سبيل هذه.
فلنا فرغ زكرويه من أهل القافلة الثانية من الحاج.
وأخذ أموالهم، واستباح حريمهم، رحل من وقته من العقبة بعد أن ملأ البرك والآبار بها بالجيف من الناس والدواب.
وكان ورد خبر قطعة على القافلة الثانية من قوافل السلطان مدينة السلام في عشية يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من المحرم، فعظم ذلك على الناس جميعًا وعلى السلطان، وندب الوزير العباس بن الحسن بن أيوب محمد بن داود بن الجراح الكاتب المتولي دواوين الخراج والضياع بالمشرق وديوان الجيش للخروج إلى الكوفة، والمقام بها لإنفاذ الجيوش إلى القرمطي.
فخرج من بغداد لإحدى عشرة بقيت من المحرم، وحمل معه أموالًا كثيرة لإعطاء الجند.
ثم سار زكرويه إلى زبالة فنزلها، وبث الطلائع أمامه ووراءه خوفًا من أصحاب السلطان المقيمين بالقادسية أن يلحقوه، ومتوقعًا ورود القافلة الثالثة التي فيها الأموال والتجار.
ثم سار إلى الثعلبية، ثم إلى الشقوق، وأقام بها بين الشقوق والبطان في طرف الرمل في موضع يعرف بالطليح، ينتظر القافلة الثالثة، وفيها من القواد نفيس المولدي وصالح الأسود، ومعه الشمسة والخزانة.
وكانت الشمسة جعل فيها المعتضد جوهرًا نفيسًا.
وفي هذه القافلة، كان إبراهيم ابن أبي الأشعث - وإليه كان قضاء مكة والمدينة وأمر طريق مكة والنفقة فيه لمصالحه - وميمون بن إبراهيم الكاتب - وكان إليه أمر ديوان زمام الخراج والضياع - وأحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن الهزلج، والفراتبن أحمد بن محمد بن الفرات، والحسن بن إسماعيل قرابة العباس بن الحسن - وكان يتولى بريد الحرمين - وعلي بن العباس النهيكي.
فلما صار أهل هذه القافلة إلى فيد بلغهم خبر الخبيث زكرويه وأصحابه، وأقاموا بفيد أيامًا ينتظرون تقوية لهم من قبل السلطان.
وقد كان ابن كشمرد رجع من الطريق إلى القادسية في الجيوش التي أنفذها السلطان معه وقبله وبعد.
ثم سار زكرويه إلى فيد وبها عامل السلطان، يقال له حامد بن فيروز، فالتجأ منه حامد إلى أحد حصنيها في نحو من مائة رجل كانوا معه في المسجد، وشحن الحصن الأخر بالرجال، فجعل زكرويه يراسل أهل فيد، ويسألهم أن يسلموا إليه عاملهم ومن فيها من الجند، وأنهم إن فعلوا ذلك آمنهم.
فلم يجيبوه إلى ما سأل.
ولما لم يجيبوه حاربهم، فلم يظفر منهم بشيء.
قال: فلما رأى أنه لا طاقة له بأهلها، تنحى فصار إلى النباح، ثم إلى حفير أبي موسى الأشعري.
وفي أول شهر ربيع الأول أنهض المكتفى وصيف صوارتكين - ومعه من القواد جماعة - فنفذوا من القادسية على طريق خفان، فلقيه وصيف يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول، فاقتتلوا يومهم، ثم حجز بينهم الليل، فباتوا يتحارسون، ثم عادوهم الحرب، فقتل جيش السلطان منهم مقتلة عظيمة، وخلصوا إلى عدو الله زكرويه، فضربه بعض الجند بالسيف على قفاه وهو مول ضربة اتصلت بدماغه.
فأخذ أسيرًا وخلفته وجماعة من خاصته وأقربائه، فيهم ابنه وكاتبه وزوجته، واحتوى الجند على ما في عسكره.
وعاش زكرويه خمسة أيام ثم مات، فشق بطنه، ثم حمل بهيئته، وانصرف بمن كان بقي حيًا في يديه من أسرى الحاج.
وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من العدو أربعة آلاف رأس سبي ودواب ومواشي كثيرة ومتاعًا.
ودخل بطريق من البطارقة إليه في الأمان، وأسلم.
وكان شخوصه من طرسوس لهذه الغزاة في أول المحرم من هذه السنة.