وقوله: فقلتُ لها: سيري وأرخي زمامه * ولا تُبعديني من جناك المعلَّل
فمثلك حُبلى قد طَرَقتُ ومُرضِعٍ * فألهيتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
البيت الأول قريب النسج، ليس له معنى بديع، ولا لفظ شريف، كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة.
وقوله: "فمثلك حبلى قد طرقتُ"، عابه عليه أهل العربية، ومعناه عندهم حتى يستقيم الكلام: فرب مثلك حبلى قد طرقت، وتقديره أنه زيرُ نساء، وأنه يفسدهن ويلهيهن عن حبلهن ورضاعهن، لأن الحُبلى والمرضعة أبعد من الغزل وطلب الرجال.
والبيت الثاني في الاعتذار والاستهتار والتَّهْيام، وغير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول، لأن تقديره: لا تبعديني عن نفسك فإني أغلب النساء، وأخدعهن عن رأيهن، وأفسدهن بالتغازل! وكونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن وترك إبعادهن إياه، بل يوجب هجره والاستخفاف به، لسخفه ودخوله كل مدخل فاحش، وركوبه كل مركب فاسد.
وفيه من الفحش والتفحش ما يستنكف الكريم من مثله ويأنف من ذكره.





وقوله:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له * بشق وتحتي شقها لم يحول
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت * على وآلت حلفة لم تحلل
فالبيت الأول غاية في الفحش، ونهاية في السخف، وأي فائدة لذكره لعشيقته كيف كان يركب هذه القبائح، ويذهب هذه المذاهب، ويرد هذه الموارد؟ إن هذا ليبغضه [ إلى ] كل من سمع كلامه، ويوجب له المقت! وهو - لو صدق - لكان قبيحا، فكيف ويجوز أن يكون كاذبا؟
ثم ليس في البيت لفظ بديع، ولا معنى حسن.
وهذا البيت متصل بالبيت الذي قبله، من ذكر المرضع التي لها ولد محول.
فأما البيت الثاني وهو قوله: "ويوما" يتعجب منه بأنها تشددت وتعسرت عليه وحلفت عليه، فهو كلام ردئ النسج، لا فائدة لذكره لنا أن حبيبته تمنعت عليه يوما بموضع يسميه ويصفه! وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب، وتطرب عليه النفس. وهذا مما تستنكره النفس، ويشمئز منه القلب، وليس فيه شئ من الاحسان والحسن.





وقوله:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل * وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي * وأنك مهما تأمري القلب يفعل
فالبيت الأول فيه ركاكة جدا، وتأنيث ورقة، ولكن فيها تخنيث!
ولعل قائلا [ أن ] يقول: إن كلام النساء بما يلائمهن من الطبع أوقع وأغزل؛ وليس كذلك، لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث لم يعدلوا عن رصانة قولهم.
والمصراع الثاني منقطع عن الأول، لا يلائمه ولا يوافقه. وهذا يبين لك إذا عرضت معه البيت الذي تقدمه.
وكيف ينكر عليها تدللها، والمتغزل يطرب على دلال الحبيب وتدلُّلِه؟
والبيت الثاني قد عيب عليه، [184] لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن لا تغتر بما يريها من أن حبها يقتله، وأنها تملك قلبه فما أمرته فعله، والمحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق.
وإن كان المعنى غير هذا الذي عيب عليه، وإنما ذهب مذهبا آخر، وهو أنه أراد أن يظهر التجلد - فهذا خلاف ما أظهر من نفسه فيما تقدم من الأبيات، من الحب والبكاء على الأحبة، فقد دخل في وجه آخر من المناقضة والإحاطة في الكلام.
ثم قوله: "تأمري القلبَ يفعل" معناه تأمريني، والقلب لا يؤمر. والاستعارة في ذلك غير واقعة ولا حسنة. [185]





وقوله:
فإن كنت قد ساءتك منى خليقة * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتل
البيت الأول قد قيل في تأويله: إنه ذكر الثوب وأراد البدن، مثل قول الله تعالى: { وثيابك فطهر }. وقال أبو عبيدة: هذا مثل للهجر. وتنسل: تبين.
وهو بيت قليل المعنى، ركيكه ووضيعه. وكل ما أضاف إلى نفسه ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف، يوجب قطعه. فلم لم يحكم على نفسه بذلك، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه والتفصّي من وصله، وأنه مهذب الأخلاق، شريف الشمائل، فذلك يوجب أن لا ينفك من وِصاله.
والاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب، وإن كان غريبة.
وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة وبدائعها.
ومعناه: ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشَّرا - أي مكسرا - من قولهم: "برمة أعشار" إذا كانت قطعا. [186] هذا تأويل ذكره الأصمعي، وهو أشبه عند أكثرهم.
وقال غيره: وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها. ويعني بسهميك: المُعلّى، وله سبعة أنصباء، والرقيب، وله ثلاثة أنصباء. فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع.
ويعني بقوله: مقتل: مذلل. [187]
وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة، لما فيها من التناقض الذي بينا.
ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني، فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرها على المعنى الأول، لأن القائل إذا قال: "ضرب فلان بسهمه في الهدف"، بمعنى أصابه - كان كلاما ساقطا مرذولا، وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه.
ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ، ولكنه يفسد المعنى ويختل، لأنه إن كان محبا - على ما وصف به نفسه من الصبابة - فقلبه كله لها، فكيف يكون بكاؤها هو الذي يخلص قلبه لها؟
واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول، ولا متصل به في المعنى، وهو منقطع عنه، لأنه لم يسبق كلام يقتضى بكاءها، ولا سبب يوجب ذلك، فتركيبه هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال.
ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا، وكان بديعا ولا عيب فيه - فليس بعجيب، لأنه لا يُدّعى على مثله أن كلامه كله متناقض، ونظمه كله متباين.
وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت، مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم فيه أحدا من المتأخرين، فضلا عن المتقدمين.
وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها وبان حِذقُه بها.
وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا مع الجودة، ومتشابها في صحة المعنى واللفظ، وقلنا: إنه يتصرّف بين وحشي غريب مستنكر، وعربية كالمُهمل مستكرهة، وبين كلام سليم متوسط، وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى، وبين حكمة حسنة، وبين سخف مستشنع. ولهذا قال الله عز اسمه: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }.