فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بينا بين اللفظتين على اختلاف مواقع الكلام، ومتصرفات مجاري النظام، لم تستفد مما نقر به عليك شيئا، وكان التقليد أولى بك، والاتباع أوجب عليك. ولكل شئ سبب، ولكل علم طريق، ولا سبيل إلى الوصول إلى الشئ من غير طريقه، ولا بلوغ غايته من غير سبيله.





خذ الآن - هداك الله - في تفريغ الفكر، وتخلية البال، وانظر فيما نعرض عليك، ونهديه إليك، متوكلا على الله، ومعتصما به، ومستعيذا به، من الشيطان الرجيم، حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم.
سماه الله عز ذكره "حكيما" و "عظيما" و "مجيدا".
وقال: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد }.
وقال: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون }.
وقال: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى، بل لله الأمر جميعا }.
وقال: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }.
وأخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين القزويني، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن عثمان، حدثنا أبو يوسف الصيدلاني، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، إن أمتك ستفتتن من بعدك، فسأل أو سئل: ما المخرج من ذلك؟ فقال: "بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؛ من ابتغى العلم في غيره أضله الله، ومن وَلِيَ هذا من جبار فحكم بغيره قصمه الله، وهو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم. فيه خبر من قبلكم، وتبيان من بعدكم، وهو فصل، ليس بالهزل. وهو الذي { لما } سمعته الجن قالوا: { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به } لا يخلق على طول الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه.
وأخبرني أحمد بن علي بن الحسن، أخبرنا أبي، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب، أخبرنا هشام بن عبيد الله، حدثنا المسيب بن شريك، عن عُبيدة، [195] عن أسامة بن أبي عطاء، قال: أرسل النبي إلى علي رضي الله عنه في ليلة، فذكر نحو ذلك في المعنى، وفى بعض ألفاظه اختلاف.
وأخبرنا أحمد بن علي بن الحسن، أخبرنا أبي، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب، أخبرنا هشام بن عبيد الله، حدثنا المسيب بن شريك، عن بشر بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله : "من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة، ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة، ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه". وذكر الحديث. [196]





ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره، وجلل الآفاق ضياؤه، ونفذ في العالم حكمه، وقبل في الدنيا رسمه، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق، ممدود الأطناب، مبسوط الباع، مرفوع العماد؛ ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته، أو يعبده حق عبادته، أو يدين بعظمته، أو يعلم علو جلالته، أو يتفكر في حكمته. فكان كما وصفه الله تعالى جل ذكره، من أنه نور، فقال: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فانظر إن شئت إلى شريف هذا النظم، وبديع هذا التأليف، وعظيم هذا الرصف، كل كلمة من هذه الآية تامة، وكل لفظ بديع واقع.
قوله: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا }: يدل على صدوره من الربوبية، ويبين عن وروده عن الإلهية. وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير تميز عن جميعه، وكان واسطة عقده، وفاتحة عقده، وغرة شهره، وعين دهره.
وكذلك قوله: { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }، فجعله روحا، لأنه يحيي، الخلق، فله فضل الأرواح في الأجساد، وجعله نورا لأنه يضئ ضياء الشمس في الآفاق. ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته، وبين أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الايمان لولا تعليمه، وأنه لم يكن ليهتدي - فكيف كان يهدي - لولاه، فقد صار يهدي ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي، فقال: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور }.
فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث: فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان، وقوله: { ألا إلى الله تصير الأمور } كلمة منفصلة مباينة للأولى، قد صيرهما شريف النظم أشد ائتلافا من الكلام المؤالف، وألطف انتظاما من الحديث الملائم.
وبهذا يبين فضل الكلام، وتظهر فصاحته وبلاغته.
الأمر أظهر - والحمد لله - والحال أبين من أن يحتاج إلى كشف.
تأمل قوله: { فالق الاصباح، وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، ذلك تقدير العزيز العليم }.
انظر إلى هذه الكلمات الاربع التي ألف بينها، واحتج بها على ظهور قدرته ونفاذ أمره، أليس كل كلمة منها في نفسها غرة؟ وبمنفردها درة؟ وهو مع ذلك يبين أنه يصدر من علو الأمر، ونفاذ القهر، ويتجلى في بهجة القدرة، ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلاسة إلى الرصانة، والسلامة إلى المتانة، والرونق الصافى، والبهاء الضافي.
ولست أقول: إنه شمل الإطباق المليح، والإيجاز اللطيف، والتعديل والتمثيل، والتقريب والتشكيل - وإن كان قد جمع ذلك وأكثر منه - لأن العجيب ما بينا من انفراد كل كلمة بنفسها، حتى تصلح أن تكون عين رسالة أو خطبة، أو وجه قصيدة أو فقرة. فإذا أُلِّفَت ازدادت [ به ] حسنا [ وإحسانا ]، وزادتك - إذا تأملت - معرفة وإيمانا.





ثم تأمل قوله: { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها، ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } هل تجد كل لفظة وهل تعلم كل كلمة تستقل بالاشتمال على نهاية البديع وتتضمن شرط القول البليغ؟ فإذا كانت الآية تنتظم من البديع، وتتألف من البلاغات، فكيف لا تفوت حد المعهود، ولا تجوز شأو المألوف؟ وكيف لا تحوز قصب السبق، ولا تتعالى عن كلام الخلق؟
ثم اقصد إلى سورة تامة، فتصرَّف في معرفة قصصها، وراع ما فيها من براهينها وقصصها.
تأمل السورة التي يذكر فيها النمل، وانظر في كلمة كلمة، وفصل فصل.
بدأ بذكر السورة، إلى أن بين أن القرآن من عنده، فقال: { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم }. ثم وصل بذلك قصة موسى عليه السلام، وأنه رأى نارا، { فقال لأهله: امكثوا إني آنست نارا، سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون }.
وقال في سورة طه في هذه القصة: { لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى }. وفي موضع: { لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون }.
قد تصرف في وجوه، وأتى بذكر القصة على ضروب، ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك. ولهذا قال: { فليأتوا بحديث مثله }. ليكون أبلغ في تعجيزهم، وأظهر للحجة عليهم.
وكل كلمة من هذه الكلمات، وإن أنبأت عن قصة، فهي بليغة بنفسها، تامة في معناها.
ثم قال: { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها، وسبحان الله رب العالمين } فانظر إلى ما أجرى له الكلام، من علو أمر هذا النداء، وعظم شأن هذا الثناء، وكيف انتظم مع الكلام الأول، وكيف اتصل بتلك المقدمة، وكيف وصل بها ما بعدها من الإخبار عن الربوبية، وما دل به عليها من قلب العصا حية، وجعلها دليلا يدله عليه، ومعجزة تهديه إليه؟
وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن، وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة، ثم ما شفع به هذه الآية، وقرن به هذه الدلالة: من اليد البيضاء - عن نور البرهان - من غير سوء.
ثم انظر في آية آية، وكلمة كلمة: هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية، وفى الدلالة آية، فكيف إذا قارنتها أخواتها، وضامتها ذواتها: [ مما ] تجري في الحسن مجراها، وتأخذ في معناها؟
ثم من قصة إلى قصة، ومن باب إلى باب، من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل، وحتى يصور لك الفصل وصلا، ببديع التأليف، وبليغ التنزيل.





وإن أردت أن تتبين ما قلناه فضلَ تبينٍ، وتتحقق بما ادعيناه زيادة تحقق - فإن كنت من أهل الصنعة فاعمد إلى قصة من هذه القصص، وحديث من هذه الأحاديث، فعبر عنه بعبارة من جهتك، وأخبر عنه بألفاظ من عندك، حتى ترى فيما جئت به النقص الظاهر، وتتبين في نظم القرآن الدليل الباهر.
ولذلك أعاد قصة موسى في سور، وعلى طرق شتى، وفواصل مختلفة، مع اتفاق المعنى.
فلعلك ترجع إلى عقلك، وتستر ما عندك، إن غلطت في أمرك، أو ذهبت في مذاهب وهمك، أو سلطت على نفسك وجه ظنك.
متى تهيأ لبليغ أن يتصرف في قدر آية في أشياء مختلفة، فيجعلها مؤتلفة، من غير أن يبين على كلامه إعياء الخروج والتنقل، أو يظهر على خطابه آثار التكلف والتعمل؟
وأحسِبُ أنه لا يسلم من هذا - ومحال أن يسلم منه - متى يظفر بمثل تلك الكلمات الأفراد، والألفاظ الأعلام، حتى يجمع بينها، فيجلو فيها فقرة من كلامه، وقطعة من قوله. ولو اتفق له في أحرف معدودة، وأسطر قليلة، فمتى يتفق له في قدر ما نقول: إنه من القرآن معجر؟
هيهات هيهات! إن الصبح يطمس النجوم وإن كانت زاهرة، والبحر يغمر الأنهار وإن كانت زاخرة.
متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السلام، بعد ذكر العنوان والتسمية، هذه الكلمة الشريفة العالية: { ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين }. والخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه من التدبير، واشتغلت به من المشورة، ومن تعظيمها أمر المستشار، ومن تعظيمهم أمرها وطاعتها، بتلك الألفاظ البديعة، والكلمات العجيبة البليغة.
ثم كلامها بعد ذلك، [ ألا ] تعلم تمكن قولها: { يا أيها الملا أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون }.
وذكر قولهم: { قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين }، لا تجد في صفتهم أنفسهم أبرع مما وصفهم به.