والآيات الأحكاميات التي لا بد فيها من أمر البلاغة، يعتبر فيها من الألفاظ ما يعتبر في غيرها، وقد يمكن فيها، وكل موضع أمكن ذلك فقد وجد في القرآن في بابه ما ليس عليه مزيد في البلاغة وعجيب النظم. ثم في جملة الآيات ما إن لم تراع البديع البليغ في الكلمات الأفراد والألفاظ الآحاد، فقد تجد ذلك مع تركب الكلمتين والثلاث، ويطرد ذلك في الابتداء، والخروج، والفواصل، وما يقع بين الفاتحة والخاتمة من الواسطة، أو باجتماع ذلك أو في بعض ذلك - ما يخلف الإبداع في أفراد الكلمات، وإن كانت الجملة والمعظم على ما سبق الوصف فيه.
وإذا عرف ما يجرى إليه الكلام، وينهى إليه الخطاب، ويقف عليه الاسلوب، ويختص به القبيل - بان عند أهل الصنعة تميز بابه، وانفراد سبيله، ولم يشك البليغ في انتمائه إلى الجهة التي ينتمي إليها، ولم يرتب الأديب البارع في انتسابه إلى ما عرف من نهجه.
وهذا كما يعرف طريقة مترسِّل في رسالته، فهو لا يخفى عليه بناء قاعدته وأساسه، فكأنه يرى أنه يعد عليه مجاري حركاته وأنفاسه.
وكذلك في الشعر واختلاف ضروبه، يعرف المتحقق به طبعَ كل أحد، وسبيلَ كل شاعر.
وفي نظم القرآن أبواب كثيرة لم نستوفها، وتقصيها يطول وعجائبها لا تنقضي، فمنها الكلام [ المغلق ] والإشارات.
وإذا بلغ الكلام من هذا القبيل مبلغا ربما زاد الإفهام به على الإيضاح، أو ساوى مواقع التفسير والشرح، مع استيفائه شرطه - كان النهاية في في معناه.
وذلك كقوله: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }. فصول هذه الآية وكلماتها على ما شرحنا من قبل البلاغة واللطف في التقدم، وفي تضمن هذا الأمر العظيم والمقام الكريم.
ويتلو هذه قوله: { وآتينا موسى الكتاب، وجعلناه هدًى لبني إسرائيل } هذا خروج لو كان في غير هذا الكلام لتصور في صورة المنقطع، وقد تمثل في هذا النظم لبراعته وعجيب أمره وموقع ما لا ينفك منه القول.
وقد يتبرأ الكلام المتصل بعضه من بعض، ويظهر عليه التثبيج والتباين، للخلل الواقع في النظم.
وقد تصور هذا الفصل للطفه وصلا، ولم يبن عليه تميز الخروج.
ثم انظر كيف أجرى هذا الخطاب إلى ذكر نوح، وكيف أثنى عليه؟ وكيف تليق صفته بالفاصلة ويتم النظم بها، مع خروجها مخرج البروز من الكلام الأول، إلى ذكره، وإجرائه إلى مدحه بشكره، وكونهم من ذريته يوجب عليهم أن يسيروا بسيرته، وأن يستنوا بسنته، في أن يشكروا كشكره، ولا يتخذوا من دون الله وكيلا، وأن يعتقدوا تعظيم تخليصه إياهم من الطوفان، لما حملهم عليه ونجاهم فيه، حين أهلك من عداهم به، وقد عرفهم أنه إنما يؤاخذهم بذنوبهم وفسادهم، فيما سلط عليهم من قبلهم وعاقبهم، ثم عاد عليهم بالإفضال والإحسان، حتى يتذكروا ويعرفوا قدر نعمة الله عليهم وعلى نوح الذي وَلَدهم وهم من ذريته، فلما عادوا إلى جهالتهم، وتمردوا في طغيانهم، عاد عليهم بالتعذيب.
ثم ذكر الله عز وجل في ثلاث آيات بعد ذلك معنى هذه القصة التي كانت لهم، بكلمات قليلة في العدد، كثيرة الفوائد، لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير، والكلام الطويل.
ثم لم يخل تضاعيف الكلام مما ترى من الموعظة، على أعجب تدريج، وأبدع تأريج، [201] بقوله: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها }.
ولم ينقطع بذلك [ نظام ] الكلام، وأنت ترى الكلام يتبدد مع اتصاله، وينتشر مع انتظامه، فكيف بإلقاء ما ليس منه في أثنائه، وطرح ما يعدوه في أدراجه؟ إلى أن خرج إلى قوله: { عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا } يعني: إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو.
ثم خرج خروجا آخر إلى ذكر القرآن.
وعلى هذا فقس بحثك عن شرف الكلام، وماله من علو الشان، لا يطلب مطلبا إلا انفتح، ولا يسلك قلبا إلا انشرح، ولا يذهب مذهبا إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضربا إلا بلغ فيه السماء، لا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى فوائدها إلا قصرت، ولا تظفر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها إلا وقد أخللت.





إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس لأضل من حمار أهله، [202] وأحمق من هبنقة. [203]
لو كان شعره كله كالأبيات المختارة التي قدمناها، لأوجب البراءة منه قوله:
وسِنٍّ كسُنَّيقٍ سناء وسُنَّمًا * ذعَرتُ بمِدِلاج الهجيز نَهُوضِ [204]
قال الأصمعي: لا أدري ما السِّن، ولا السنيق، ولا السُّنَّم؟ وقال بعضهم: السنيق: أكمة.
وقال فيها:
له قُصْرَيَا عَيرٍ وساقَا نَعامةٍ * كفَحلِ الهِجانِ القَيسريّ العَضُوضِ [205]
وقوله:
عَصافيرٌ وذِبّانٌ ودُودٌ * وأَجرَأُ من مُجَلِّحة الذئابِ [206]
وزاد في تقبيح ذلك وقوعه في أبيات فيها:
فقد طوّفتُ في الآفاق حتى * رضيتُ من الغنيمة بالإيابِ
وكل مكارم الأخلاق صارتْ * إليه همتي وبها اكتسابي
وكقوله في قصيدة قالها في نهاية السقوط:
أزْمانَ فُوهَا كلما نبّهتُها * كالمسك فاح وظل في الفدّامِ
أفلا ترى أظعانهن بواكرا * كالنخل من شَوكانَ حينَ صِرام [207]
وكأن شاربها أصاب لسانه * مُومٌ يخالط جسمه بسقامِ [208]
وكقوله:
لم يفعلوا فعل آل حنظلةٍ * إنهم جَيرِ بئسما ائتمروا [209]
لا حِمْيَريّ وفى ولا عُدَسٌ * ولا استُ عَيرٍ يحكُّها الثَّفًرُ [210]
إن بني عوفٍ ابتنوا حسبا * ضيعه الدُّخلَلُون إذ غدروا [211]
وكقوله:
أبلغ شهابا [ بل ] وأبلغ عاصما * [ ومالكا ] هل أتاك الخبرُ مالِ [212]
أنا تركنا منكم قتلى * بخوعَى وسُبِيًّا كالسَّعالي [213]
يمشين بين رحالنا مُعـ * ترفاتٍ بجوع وهزال