لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا - موجود في كل سورة، صغرت أو كبرت، فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا.
والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها في كتابنا من التفصيل الذي بينا، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة، وتتبين به البلاغة، حتى يعلم ذلك بوجه آخر، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزا حتى يستدل به من وجه آخر سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة، وهذا غير ممتنع.
ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهرُ، وفي بعضها أغمض [ وأدق؟ فلا يفتقر البليغ ] في النظر في حال بعضها إلى تأمل كثير ولا بحث شديد، حتى يتبين له الإعجاز. ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق وبحث لطيف، حتى يقع على الجلية، ويصل إلى المطلب.
ولا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور، فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف، أو ما عَلِمَه من عجز العرب قاطبة عنه.
فإن ادعى ملحد أو زعم زنديق أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار؛ قلنا له: إن الإعجاز قد حصل بما بيناه، وعرف بما وقفنا عليه من عجز العرب عنه.
ثم فيه شئ آخر، وهو أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز، فكيف يجوز أن نناظره على تفصيله؟
وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال، قامت الحجة عليه، وثبتت المعجزة، ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات.
ونحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه، والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل لم يبق بعد ذلك إلا قولنا، لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا، ثم عرفنا في الباقي بالتوقيف، ونحو ذلك.
وليس بممتنع اختلاف حال الكلام، حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر، وفي بعضه أغمض؛ ومن آمن ببعض دون بعض كان مذموما، على ما قال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } وقال: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }. فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء { 9 ببعضه أوقعُ، وإن كنا نقول: إنه يدل على أن الشفاء 9 } في جميعه.
واعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغ والبليغ، ولذلك كانوا يسمون الكلمة: "يتيمة"، ويسمون البيت الواحد: "يتيما".
سمعت إسماعيل بن عباد يقول: سمعت أبا بكر بن مقسم يقول: سمعت ثعلبا يقول: [ سمعت سلمة يقول ]: سمعت الفراء يقول: العرب تسمي البيت الواحد يتيما، وكذلك يقال: "الدرة اليتيمة" لانفرادها، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي "نتفة"، وإلى العشرة تسمى "قطعة"، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى "قصيدا"، وذلك مأخوذ من المخّ القَصيد، وهو المتراكم بعضه على بعض، وهو ضد الرار، [242] ومثله الرَّثِيد.
انتهت الحكاية، ثم استشهد بقول لبيد: [243]
فتذكرا ثَقَلا رَثيدا بعد ما * ألقتْ ذُكاءُ يَمينَها في كافِرِ [244]
يريد بيض النعام، لأنه ينضد بعضه على بعض.
وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر، والمثل السائر، والمعنى الغريب، والشئ الذي لو اجتهد له لم يقع عليه، فيتفق له ويصادفه.
قال لي بعض علماء هذه الصنعة - وجاريته في ذلك - إن هذا مما لا سبب له يخصه، وإنما سببه الغزارة في أصل الصنعة، والتقدم في عيون المعرفة، فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب، وما يشذ عن تفصيل الحساب.
فأما ما قلنا من أن ما بلغ قدر السورة معجز، فإن ذلك صحيح.
فصل في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة

ذهب [ الشيخ ] أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك عن النبي يعلم ضرورة، وكونه معجزا يعلم باستدلال. وهذا المذهب محكي عن المخالفين.
والذي نقوله في هذا: إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا، وكذلك مَن لم يكن بليغا.
فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية وغرائب الصنعة، فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الإتيان بمثله، ويعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه، كما أنه إذا علم الواحد منا أنه لا يقدر على ذلك، فهو يعلم عجز غيره استدلالا.
فصل فيما يتعلق به الإعجاز

إن قال قائل: بينوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه: أهو الحروف المنظومة، أو الكلام القائم بالذات، أو غير ذلك؟
قيل: الذي تحداهم به أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها، متتابعة كتتابعها، مطردة كاطرادها، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له.
وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها، وهي حكاية لكلامه، ودلالات عليه، وأمارات له، على أن يكونوا مستأنفين لذلك، لا حاكين بما أتى به النبي .
ولا يجب أن يُقدر مقدر أو يظن ظان أنا حين قلنا: إن القرآن معجز، وأنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله - أردنا غير ما فسرناه، من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات.
وقد بينا قبل هذا أنه لم يكن ذلك معجزا، لكونه عبارة عن الكلام القديم، لأن التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام القديم، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وكذلك ما دون الآية - كاللفظة - عبارة عن كلامه، وليست بمنفردها بمعجزة.
وقد جوز بعض أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه. والذي عول عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره، وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس.
ولم نحب أن نفسر ونذكر موجب هذا المذهب الذي حكيناه وما يتصل به، لأنه خارج عن غرض كتابنا، لأن الإعجاز واقع في نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلامه. وإلى مثل هذا النظم وقع التحدي، فبينا وجه ذلك، وكيفية ما نتصور القول فيه، وأزلنا توهم من يتوهم أن القديم حروف منظومة، أو حروف غير منظومة، أو شئ مؤلف، أو غير ذلك، مما يصح أن يتوهم على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى.
فصل في وصف وجوه من البلاغة

ذكر بعض أهل الأدب والكلام [245] أن البلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان. [246]
فأما الإيجاز فإنما يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى، فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة.
وذلك ينقسم إلى حذف، وقصر:
فالحذف: الإسقاط للتخفيف، كقوله: واسأل القرية }. وقوله: { طاعة وقول معروف }.
وحذف الجواب كقوله: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى }. كأنه قيل: لكان هذا القرآن.
والحذف أبلغ من الذكر، لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب. [247]