إن القول بنهاية التاريخ ليس بدعة فرانسيس فوكوياما أو ماركس ولا هيجل ونيتشه كما يظن، بل هي هاجس يلحّ عندما تتعرض أمة للانهيار أو ترتقي أمة معارج العظمة، وسبق أن قلت في مقال بعنوان (النخبة تسأل والجمهور يجيب):
(الحضارة الإنسانية -ولا بد- واحدة؛ لأن أصلها واحد ألا وهو جذوة الإنجاز والحركة، ومن هنا نعرف مدى خسة ما ذهب إليه صموائيل هنغنتن في (صراع الحضارات) والذي ساهم في تأجيج الفكر السياسي الأمريكي ليخرج بترسانته الحربية الهائلة متغطرساً كما تغطرس قارون وحاشراً لأنفه بين الشعوب وملابسها.
صموائيل وفوكوياما كلاهما يحلل وفق نظرة آنية قصيرة النفس يهزأ بها التاريخ، ولا يعتمدها كمقياس لسيادة أمة أو لنهاية تاريخ؛ فالتاريخ أعمق من هذا وأشمل، كلاهما يتحدث عن العالم (الغرب والبقية) كلاهما يفكر وفق لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي وانفراد السياسة الأمريكية بالفطيرة، ولكن لو افترضنا أن طفلاً صغيراً قاطع أحدهما بسؤال ساذج قائلاً:
لو أن أمريكا تفكّكت داخلياً، وشبت فيها حروب أهلية، وسقط اقتصادها، وتردت معيشياً وتعليمياً، وطارت شعلة الحضارة من بين يديها، فهل ستحرقان كتابيكما..؟
ولا بد فهما ينطلقان من نظرة سياسية بحته تراقب النفوذ كمحرك أول ونهائي للتاريخ، وكأن القول بنهاية التاريخ هاجس يطرأ عند صعود الأمم فقط، بل على العكس من ذلك فعندما تترنح الأمم مستقبلة الأفول يلح هذا الهاجس أيضاً هاجس (نهاية التاريخ)؛ فها هو ذا أوغسطين عندما أحرق البرابرة من قبائل الهون مدينة الله إيذاناً بسقوط إمبراطورية الرومان قال بنهاية التاريخ).
يسعنا القول إنه احتفال بانهيار الفكر الشيوعي وليس احتفالاً بانهيار الاتحاد السوفيتي؛ فالكتاب حفلة صاخبة بمناسبة موت كارل ماركس، وليس بمناسبة سقوط لينين أو جورباتشوف أو ستالين أو خروشوف، وحتى لو ظلت بعض الأسماء مثل فيدل كاسترو ولي بنج وكيم إيل سونج، فإنها لا تهم الباحث في الفكر السياسي بقدر ما يهمه المنظرون الكبار.
فكرته تقول بما أن الديموقراطية الليبرالية قد انتصرت، وانتصر الغرب معها، فلا ثمة جديد ممكن أن يُقدّم للعالم، فما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الماركسية الصينية قائمة ستقوم لأي نظام صالح لإغراء البشر بله عن إسعادهم، وعليه فقد انتهى التاريخ.
إلاّ أنه يعود فيستثني الأصولية الإسلامية بتعبيره، زاعماً أنها أحدث تحدٍّ فكري سياسي للنظام الليبرالي، ومع ذلك يصرح بعدم جاذبيتها للشباب الأوروبي والأمريكي الحديث، فتراجع عن القول بنديّتها كمتحدٍّ ولو وهمي لجبروت العالم الحر.
وهنا نقف على مدى الفجيعة الفكرية لأحد أساطين التنظير القومي الأمريكي؛ ففوكوياما -وهنا عرض لأهم ما يضطلع به من أعمال- (سبق وأن شغل منصب عضو قسم العلوم السياسية بمؤسسة راند أكبر المؤسسات البحثية العالمية في الفترة من 1979 - 1980، ثم من 83 - 1989، ثم من 95 -1996 اختير عضوًا في مجلس إعداد السياسات في عهد إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان بعامي 81 19- 1982، بصفته عضوًا نظاميًّا متخصصاً في شؤون الشرق الأوسط. اختير عضوًا في مجلس إعداد السياسات في عهد إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب عام 1989 بصفته نائب مدير الشؤون العسكرية والسياسية الأوروبية وفي عام 81 19- 1982 كان عضوًا في المفوضية الأمريكية التي شاركت في المباحثات المصرية -لإسرائيلية حول الاستقلال الفلسطيني. أستاذ السياسة العامة بمعهد السياسة العامة بجامعة جورج ماسون. ومدير برنامج المعهد للتجارة الدولية والسياسات المرتبطة بها.عضو الجمعية الأمريكية لتطوير الدراسات السلافية
عضو مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي).
اضطررنا لسرد أعماله كي نتبين موقعه من الفعل السياسي الأمريكي؛ فالمتابع للتوجه الأمريكي في ما يسمى بدول العالم الثالث، ويستمع لخطابات البيت الأبيض يرى كيف تأكد لدى الساسة الأمريكان أنهم حجاج قديسون قد بعثوا لانتشال البشرية من العقائد والموروثات والإيديلوجيات، فإن لم يستجيبوا ولن يستجيبوا فنهاية التاريخ ستقسم العالم إلى دول ما قبل التاريخ، والتي تتقاتل فيها الطائفيات، وإن بقيت سوقاً لدول ما بعد التاريخ والتي تستظل بالليبرالية غير آبهة بدول ما قبل التاريخ ولا بإنسانها في عزلة شعورية من صنع فوكوياما الخطير..!
يقول فوكوياما: إن فكرة الكتاب تعود إلى مقال له بنفس العنوان "نهاية التاريخ" كان قد كتبه في صيف عام 1989، عالج فيه التوافق الكامن في النظام "الرأسمالي الليبرالي" كنظام حكم بدأ يزحف على بقية أجزاء العالم في الآونة الأخيرة، وكيف تأكد هذا بانتصاراته المتتالية على الأيديولوجيات الأخرى كالملكية الوراثية، والفاشية، وأخيراً الشيوعية.
كما طرح في نفس المقال فكرة مؤداها أن نفس هذا النظام "الرأسمالي الليبرالي" لربما شكّل المرحلة النهائية في التطور العقائدي للجنس البشري وبالتالي يصبح هو نظام الحكم الأمثل، وبمعنى آخر فإن الوصول إلى هذا النظام هو "نهاية التاريخ".
وقد أثار هذا المقال زوبعة في أمريكا وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا والاتحاد السوفييتي وغيرها، فظهر لفوكوياما من خلال ردود الفعل والانتقادات أنه فهم بالخطأ مما دفع الكثيرين لرد فكرته؛ لأن الأحداث ما زالت تتوالى كسقوط حائط برلين وغزو العراق للكويت وغيرها، قائلين إن التاريخ مستمر ولم ينته.
فبيّن فوكوياما من خلال الكتاب الذي أصدره عام 1992م إلى أن نهاية التاريخ لا يُقصد بها توقف استمرارية الأحداث، حتى الهائل أو المروّع منها، وإنما توقف التاريخ، التاريخ كما هو مفهوم لديه ولدى الكثيرين غيره من أنه تجربة بشرية تتطور بشكل متصل ومتماسك، وهو يعتقد أن هذا المفهوم يتطابق إلى حد كبير مع منظور الفيلسوف الألماني (هيجل) للتاريخ، والذي تحوّل إلى جزء من حياة البشر عندما استعاره كارل ماركس من هيجل. فالحياة ستستمر تفجر الأحداث سواء أكانت هامة أم غير هامة، وستستمر من ميلاد إلى موت، وستستمر الجرائد في الإطلال كل يوم، وستستمر نشرات الأخبار اليومية، لكن الاختلاف الوحيد أنه لن يكون هناك أي تقدم أو تطور بعد اليوم فيما يتعلق بالمبادئ والعقائد والمؤسسات، وكأن الليبرالية الدين المهيمن والرسالة الخالدة وهي خاتم الرسل!
ذكر فوكوياما شارحاً لنظريته أن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة أو مرور فترة معينة لمرحلة ما بعد الحرب، وإنما نهاية للتاريخ، بوضع حد للأفكار الأيدلوجية في التاريخ الإنساني وانتشار قيم الليبرالية الديموقراطية الغربية.
وهذه النظرية تقوم على ثلاثة خطوط عريضة:
الأول: أن الديموقراطية المعاصرة قد بدأت في النمو منذ بداية القرن التاسع عشر، وانتشرت بالتدرج كبديل حضاري للأنظمة الديكتاتورية.
الثاني: أن فكرة الصراع التاريخي المتكرر بين "السادة" و"العبيد" لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى في الديموقراطيات الغربية واقتصاد السوق الحر.
الثالث: أن الاشتراكية الراديكالية أو الشيوعية لا يمكنها لأسباب عدة أن تتنافس مع الديموقراطية الحديثة، وبالتالي فإن المستقبل سيكون للرأسمالية والديموقراطية.
ومن خلال هذه المقدمة يرى فوكوياما أن الديموقراطية قد أثبتت منذ الثورة الفرنسية وحتى وقتنا هذا أنها أفضل النظم التي عرفها الإنسان أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً. ولا يعني فوكوياما أن نهاية أحداث الظلم والاضطهاد في التاريخ قد انتهت، وإنما التاريخ هو الذي انتهى، حتى وإن عادت نظم استبدادية للحكم في مكان ما، فإن الديموقراطية كنظام وفلسفة ستقوى أكثر مما قبل، وقد فطن فوكوياما منذ بداية كتابه إلى أصل صراع الأفكار وباعثها ألا وهو (التيموس)، كما عبر عنه سقراط وهو الصراع من أجل الاعتراف، فبعدما كان التنافس على أشده في دول العالم القديم والدماء التي سالت فداء لطِروادة وغيرها من عواصم العالم القديم وقبله لم تكن القبائل البدائية تتوسع في الأرض لأجل الطعام والمأوى بل لأجل انتزاع الاعتراف بتميزها، ومن هنا انقسم المجتمع إلى أسياد وعبيد وموقف كل أحد من الموت العنيف هو الذي يحدّد وجوده كسيد إن خاطر بحياته لانتزاع الاعتراف أو لم يخاطر بها فمصيره للعبودية، وهذه عصارة ما فكر فيه هيجل وماركس، فكرة القدم اليوم تعبر التعبير الجلي عن هذه الروح الكامنة حيث الانتقال من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة، ولا تزال إلى أن أعلن نهاية التاريخ حيث يتواطأ العالم الجديد على إقفال التاريخ بممارسات ليبرالية بحته تضمن لهم النهاية الممكنة والمتاحة.
يرى فوكوياما أن العالم سيشهد المزيد والمزيد من الحكومات الديموقراطية بمختلف أشكالها في السويد وتركيا والهند وغانا وفنزويلا. ومن يصرخ في وجه هذه النظرية يرى أن أكبر دليل على تهافتها هو تصاعد حركات وأفكار إسلامية في الشرق الأوسط أو نجاح الحركات اليسارية في أمريكا الجنوبية.
فنحن أمام خطين موغلين في التباعد، وبالفعل ففوكوياما مزهوّ بنظريته ويستمد الوثوقية من غرور القوة الأمريكية، وكما ذكرنا وحتى عندما استبعد تهديد الشيوعية مرة أخرى ذكر أن التهديد قد يأتي من الإسلام، ومع ذلك يفند هذا التصور بضعف الجاذبية الإسلامية، ولعل هذا من أقوى الحوافز لنا كمسلمين لإعادة التفكير فيما بعد العولمة والتأهب لقول شيء للعالم، فها هو التفكير الأمريكي يشرق بنا ويستفزنا كأمة نائمة!
ليست المشكلة فقط في نهاية التاريخ حيث يسود النظام الليبرالي حيث هو أفضل الموجود، ولا يمكن بحال أن يتوصل العقل البشري إلى نظام يكفل له الأمن والرفاه، إلاّ هذا النظام الحر بحسب فوكوياما، والذي بدأ يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويحاول مناقشة نظريته الآنفة الذكر خاصة بعد أحداث سبتمبر أيلول، ولا أعتقد أن لردود الفعل القوية -مهما كانت قوية- أثراً في مراجعته لحساباته، بل إن الزمن وأحداثه الكونية كفيلة بتغيير مثل هذه الأفكار والنظريات مهما تماسكت في أذهان معتقديها.. فأين تكمن المشكلة؟ تكمن في ما بعد نظرية نهاية التاريخ.
يرى فوكوياما أن المجتمعات ستنهار بفعل العولمة المنتشرة كنار الهشيم، حيث سينكفي الأنسان بداية على استهلاكه، حيث هو حيوان استهلاكي وهذه وردت في نهاية كتاب نهاية التاريخ وهي مستقاة من نظرية نيتشه، وبعد ذلك انكفاء الإنسان العولمي على حاسبه الآلي حيث لا تواصل بين البشرية في ذلك الحين إلاّ بحزم البيانات وشرائح الكمبيوتر، وكل هذا تدشين لكتابه المروع (مستقبلنا ما بعد البشري) وهو من ثلاثة أجزاء وكل جزء من عدة فصول، فالجزء الأول يحمل عنوان (الطريق إلى المستقبل)، وفيه يتناول علم الدماغ البشري وتركيبته العامة، ويفصل القول في علم الأعصاب البيولوجية، وعن العقاقير الطبية وتأثيرها على الإنسان وكيفية تحكّمها بسلوك الإنسان.
أما عن علاقة ذلك بالاجتماع ففوكوياما يرى أن التطور الاجتماعي في طريقه إلى مجتمع المعلوماتية، حيث المعرفة بكل شيء هي أساس الوجود للفرد والمجتمع، ويرى (باستحالة هذا التحكم فإذا استطعنا أن نتحكم بمسيرة العلم فإننا سنتحاشى بالطبع الكارثة المتوقعة، وإذا لم نستطع فسوف نسير نحو مصير مجهول، لا يعلم إلاّ الله شكله ونوعيته. والواقع أن نتائج علم البيولوجيا العصبية سوف تنعكس على النظام الاجتماعي والسياسي وليس فقط على طبيعة الإنسان وخلاياه ومورثاته الدماغية والعصبية، فسوف تؤدي إلى عالم أقل مساواة وعدلاً).
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)