كي لا نشرب شاينا بنكهة البول …


بقلم : ياسر خير الله

قرأت منذ فترة بأن إحدى الخادمات الفلبينيات في البحرين قد بالت في إبريق
الشاي وقدمته لأولاد مستخدميها الذين شربوه مستمتعين بتلك النكهة
الجديدة، ورغم أن الأطفال لم يصبهم شيء حسب الصحيفة التي نشرت هذا الخبر،
إلا أن السلطات في البحرين حكمت على هذه الآسيوية البائسة بالسجن لستة
أشهر.

لا أدري بالضبط في أي مرحلة من مراحل تاريخنا بدأنا في الاعتماد على
الآخرين من أجل إنجاز أعمالنا ابتداءً من تحضير الشاي وانتهاءً بفك
الحصار عن أوطاننا، البعض يقولون بأن العرب والمسلمين تخلوا عن أي واجب
عليهم مع بداية آذار من عام 1193 ميلادي أي بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي
إلا أن الكثير يؤكد بأن المرة الأولى التي جلس فيها العربي في خيمته
واتكأ على وسادته ونسي العمل إلى الأبد كانت بتاريخ 14 شباط من عام 1945
يوم حلف علينا الأمريكيون على سطح الطرادة كوينسي ألف يمين ويمين بأن ندع
لهم الأعمال القذرة ليتولوا بأنفسهم مهمة استخراج الزيت الأسود لنا.

ولأننا شعوب مغرمة بالدلال، ولأن الغرب وخاصة أصدقاءنا الأمريكيين مغرمين
بتدليلنا فقد حلفوا اليمين تلو اليمين فبعد أن ساعدونا في التخلص من
العثمانيين، قسّموا لنا بلداننا بأنفسهم، ووزعوها علينا بالعدل
والمساواة، حفروا لنا آبار النفط واستخرجوه لنا، حلّوا النزاع بيننا وبين
عصابات المهاجرين من الهاغانا والأرغن والشتيرن، وتحملوا أعباء كل
المهجَّرين والنازحين والمبعدين والمقهورين والمظلومين الفلسطينيين
فأقاموا لنا الهيئات والمؤسسات والرباعيات والسداسيات، أمدونا بالسلاح
والميليشيات وحشوا أوطاننا بالطوائف والقوميات دعمونا في مواجهة الخطر
الشيوعي على العرب، ثم دعمونا في مواجهة الخطر الفارسي على العرب، ثم
دعمونا في مواجهة الخطر العربي على العرب، ناهيك عن جهودهم الجبارة في
حمايتنا من خطر الإسلام والمسلمين على الإسلام والمسلمين.

حتى أنهم ولشدة خوفهم علينا وحرصهم على راحتنا انتقلوا بكامل عتادهم
العسكري والسياسي والثقافي فأحضروا معهم جنودهم ودباباتهم وطائراتهم
وقنابلهم وموتهم ومدارسهم ومناهجهم ومعارفهم وحضارتهم ولغتهم، وبدؤوا
بإعادة كتابة مناهجنا المدرسية لكي تتوائم مع الحضارة والديمقراطية،
والابتعاد بها عن التطرف والسلفية، بل حتى أنهم تكفلوا وعلى ذمة موقع
الجزيرة بإحضار خبيرة أميركية يهودية أسندوا إليها مهمة إعادة النظر في
مناهج التربية الدينية الإسلامية المقررة على الطلاب في المدارس الحكومية
في مصر..... أفسدونا بدلالهم هؤلاء الأمريكيون.

أكثر الخدمات غرابة وطرافة والتي دأب أصدقاؤنا الأمريكيون على تقديمها
خلال السنوات الخمسين الماضية لكل الشعوب العربية كانت زجاجة الكوكا كولا
بشكلها الأنثوي المتميز وروحها الفوارة، ولفترة طويلة من الزمن كانت تلك
الأمريكية الغازية، المقياس الأكثر دقة لمدى عمق الصداقة بين الأمريكان
والعرب من جهة، والرمز الأكثر تعبيراً عن آلية عمل السياسة الإمبريالية
الأمريكية من جهة أخرى، ولا أعتقد أن هناك حرباً سياسيةً كانت أكثر
إبداعاً وأعظم انتصاراً بالنسبة لنا، من حرب الكوكاكولا التي خضناها في
تلك الفترة مع صديقتنا الإمبريالية، إبداع لا يكمن في محافظة سياستنا
ولسنوات طويلة على نظافة طاولات طعامنا من رموز الإمبريالية وعدم الرضوخ
لهذه الماكينة الأمريكية الجبارة في بذر نمط الحياة الأمريكي بين أوساط
المجتمع كمقدمة للغزو الاقتصادي، بقدر ما يكمن في لحظة السماح بدخول
الكوكاكولا إلى بلدنا وعبورها حدودنا السياسية والإجتماعية بعد أن تم
تفريغ المعنى من هذه الزجاجة من رمز للامبريالية إلى مجرد مشروب غازي
بعلبة معدنية تقف بذلّ أمام منافساتها من الماركات المحلية الصنع
والمنشأ.

إلا أنه –وبعد تجاربه العديدة مع دول الممانعة- تطور الفكر الامبريالي
الأمريكي إلى الدرجة التي استطاع فيها أن يغيّر جلده الذي طالما ميّزه
دون أن يغير من معدنه، وكنظام يتقن صناعة الحاجة ليصنع الحاجيات، عمل على
خلق الحاجة للغة الإنكليزية في المجتمعات العربية كأداة أساسية لتلقين
العلم والسير بالمجتمع العربي نحو المستقبل وكبديل لازم عن التعليم
باللغة العربية “العقيمة” التي تسير بمجتمعنا إلى الماضي والتخلف، فرق
كبير وهائل عن زجاجة الكولا البائسة تلك في السياسة الإمبريالية، فلا شيء
يعيق اللغة والثقافة الأمريكية عن الانتشار وخاصة في ظل هذه العولمة من
ناحية، وظل الافتتان الشعبي والرسمي العربي والشعور بالدونية أمام كل ما
هو غربي، والولع “بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله”
كما قال ابن خلدون منذ أكثر من ستمائة عام من ناحية ثانية.

ولعٌ سهّل للفكر الإمبريالي الجديد أن يعبر إلى عصب الثقافة العربية
وينخر فيها من الداخل بحجة نشر العلم والتعليم والديمقراطية ومكافحة
الإرهاب الفكري في المناهج العربية، مجنداً لهذه المهمة الملايين من
الدولارات وعشرات الشركات الإعلامية والتربوية متعددة الجنسيات التي بدأت
تستثمر في بلادنا العربية في مجالات الإعلام والتعليم والتربية، مستغلة
الهفوات القاتلة التي بدأت ترتكبها حكوماتنا مؤخراً من خلال تسليمها
المؤسسات التربوية والتعليمية الحكومية لجهات غير قادرة على استيعاب
واستشراف مخاطر هذه التغيرات التي تحدث في الواقع التربوي والتعليمي
والتي ظهرت أكثر نتائجها خطورة في ارتفاع مستوى التعليم في تلك المؤسسات
الخاصة التي تُدرس باللغة الإنكليزية على حساب تدني مستوى التعليم في
المدارس والجامعات الحكومية والتي تمثل الخط الدفاعي الأخير عن لغتنا
وثقافتنا ومستقبلنا.

تلك الجامعات التي انفردت عن باقي جامعات العالم العربي بالتدريس باللغة
العربية منذ أوائل القرن الماضي وقامت بجهود جبارة ودفعت مئات ملايين
الليرات ووظفت عشرات المختصين في عمليات التعريب والترجمة ومتابعة
التطورات الهائلة في العلوم الطبية والهندسية بحيوية وكفاءة، وبرغم
الفجوة الكبيرة التي كانت تفصلنا نحن ولغتنا عن العلوم الأجنبية استطاعت
تلك الجهود أن تضع أسس لغة طبية وهندسية عربية لم يكن ينقصها إلا من يؤمن
بها وبنفسه قبلها.

إلا أنه -وعلى ما يبدو- عندما تسحب مهمة الدفاع عن الأرض من “غرندايزر”
وتسلمها إلى “هايدي” فإنك بذلك تقدم أكبر خدمة لآل فيغا.

هذه الخدمة تراها جلية اليوم عندما تسير في أحد الأسواق التجارية المغلقة
فتشاهد أحد أصحاب المحلات التجارية يلصق على الواجهة الزجاجية الاسم
العربي لماركته التجارية عملاً بأحكام قانون التعريب، بينما يعبر من
جانبه سرب من الأطفال وهم يصرخون بمزيج غريب من اللغة الإنكليزية
المؤمركة مع عربية مكسرة بلهجة سريلانكية، ولمزيد من السريالية، ينطلق
خلف هؤلاء الأطفال ظلهم الآسيوي من الخادمات المكلفات بالعناية والرعاية
بكامل خنوعهن كبديل متعدد الجنسيات للأم العربية الحديثة.

في تعريفها للّغة، تقول فاطمة لطفي كودرزى: “إن اللغة خزان ثقافي فكري
وديوان للحضارة، فالطفل الذي نعلمه اللغة العربية، فنحن على الأصح نعلمه
الثقافة العربية بكل تفصيلاتها، يلتزم بقيم متكلميها ويتشرب أنماطهم في
التفكير والرؤية إلى العالم والأشياء, ومنه فإن أي تخلف في اللغة
يلزمه تخلف في الثقافة والوجدان الجمعي والانتماء إلى الوطن”. وهو تعريف
عالمي وتعمل به كل شعوب العالم، حتى تلك التي هُزمت مرة في الحرب
العالمية الثانية كانت تدرك -بعكسنا- بأن اللغة والهوية القومية هي أساس
أي نهضة علمية واقتصادية وصناعية، ولذلك، ففي اليوم الثاني من شهر أيلول
عام 1945 أي بعد سبعة أشهر من قبولنا لخدمات أصدقائنا الأمريكان في سلبهم
نفطنا كي لا تتسخ أيدينا بالزيت الأسود، وعلى متن السفينة الأمريكية يو
اس اس ميسوري وقّعت اليابان على وثيقة استسلامها وشروطها الكاملة
المتضمنة حل الجيش الياباني وتغيير الدستور إلا شرطاً واحداً لم توافق
عليه أبداً: التخلي عن لغتها القومية بالتعليم

المشكلة ليست في لغتنا العربية، وخاصة مع لغة مثلها تستطيع أن تجد في
أوعيتها التي أمدها “أجدادنا المتحجرون” أكثر من ألف وصف للسيف، وعجزنا
“نحن المتطورون” عن أن نضيف إليها بضع كلمات حديثة، بل تكمن المشكلة في
من يتهم اللغة بضيق أفقها ومحدوديتها بينما تتهمه اللغة بأنه: “تكاسَلَ،
وفتر، وقعد، وونى، وتقاعد، وتثاقل، وتواكل، وأخلد إلى الكسل، واسترسل إلى
العطلة، واستنام إلى الراحة، ورضي بالتخلف، واطمأن إلى الخمول، وأصبح ميت
الحس، لا تحفزه الحاجة، ولا تستحثه الفاقة، ولا يؤلمه ناب الفقر، ولا
يبالي بِالضراعة، ولا يستخشن لباس المسكنة، ولا يجد للامتهان مساً.”،
مشكلتنا نحن العرب الذين بتنا عاجزين –كشعوب- عن أي فعل مادمنا نعتمد على
الآخر ليحضّر لنا شاينا ويصنع لنا مستقبلنا، يخرج لنا زيتنا ويبني لنا
أبراجنا، يعيد رسم كلماتنا ويفسر لنا أحلامنا ويكتب لنا سيرتنا، يصنع لنا
سلاحنا ويقاتل عنا عدونا ليحرر لنا أرضنا ويفك عنا حصارنا.

إنني أشفق الآن على تلك الآسيوية البائسة التي تمضي ليلتها السادسة عشر
خلف قضبان السجن لأنها بالت في شاينا، ولو كان الأمر بيدي لصنعت لها
تمثالاً من الذهب وهي تقف حاملة كوباً من الشاي في يدها وتمده نحو الأفق،
ولنقشتُ تحته ما دَفَعتْ ستة أشهر من عمرها في السجن لتقوله لنا نحن
العرب: إذا كنتم تريدون شايكم بلا بول.. فاصنعوه بأنفسكم.