بقلم: عبد الله بن محمد المالكي


أما مفهوم (العقل العربي/ أو الإسلامي)؛ فيجب ابتداء أن نشير إلى أن هذا المفهوم التركيبي مفهوم حادث؛ لم يكن متداولاً لا في التراث العربي الإسلامي، ولا في الدارسات العربية الإسلامية المعاصرة إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي تقريبا، ربما قد نستثني عبدالله العروي في مؤلفه (مفهوم العقل) والذي تقدم عنهما ببضع سنوات، لكن طرحه لم يحدث صدى في الساحة الثقافية كما أحدث مشروع الجابري وأركون .
ومنذ بداية الثمانينيات - كما سبق معنا - بدأ المصطلح يشتهر تداوله بشكل ملحـوظ [1]، وذلك بعد التحول المنهجي للفكر الحداثي في موقفه من الدين والتراث الإسلامي، من حالة المواجهة والمنابذة إلى حالة المصالحة والاحتواء، ومن منهجية نقل الحداثة من الخارج إلى تأصيلها من داخل التراث. وكان أبرز من يمثل هذا التحول: محمد أركون في مشروعه (نقد العقل الإسلامي)، ومحمد عابد الجابري في مشروعه (نقد العقل العربي). والملفت أن كلا المشروعين ظهرا في سنة واحدة، (سنة 1984) [2].
أركون يحبذ أحياناً أن يستخدم عبارة الفكر الإسلامي، بدلاً من العقل الإسلامي، وهذا يعطينا إضاءة أخرى في استكشاف مفهوم العقل الإسلامي عنده، لأن "كلمة العقل لا تكفي هنا وحدها، فالعقل هو ملكة من جملة ملكات أخرى يستخدمها الفكر [كالخيال والذاكرة]، ولهذا السبب أفضِّل استخدم كلمة فكر على استخدام كلمة عقل عندما أقول إني أدرس تاريخ الفكر الإسلامي، وأشتغل في مجال الفكر الإسلامي، وذلك لأن كلمة فكر أوسع" [3].

وهذا الاستخدام المحبَّذ نجده أيضاً محبّذا عند الجابري، فهو يعترف أن مصطلح (العقل العربي) سيثير "في ذهن القارئ الفاحص لما يقرأ، أكثر من سؤال: هل هناك عقلٌ خاص بالعرب، دون غيرهم؟ أوليس العقل خاصية ذاتية للإنسان، أي إنسان، تميزه وتفضله عن الحيوان؟". وخروجاً من هذه الإشكالات "يمكن تفادي مثل هذه التساؤلات لو أننا استعملنا كلمة (فكر) بدل كلمة (عقل)" [4]. وفعلاً "نستطيع أن نحدد مفهوم (العقل العربي) كما سنتناوله بالتحليل والفحص في هذه الدراسة تحديداً أولياً، فنقول: إنه ليس شيئاً آخر غير هذا (الفكر) الذي نتحدث عنه" [5].

إذا كان الأمر كذلك؛ فما الذي دفع أركون والجابري إلى استعمال كلمة العقل (الإسلامي/العربي) بدلا من كلمة (الفكر)؟

الذي يبدو أن أركون والجابري وإن كانا يحبِّذان استخدام كلمة (الفكر)، إلا أنهما يشعران بوجود إشكالية تحيل إليها كلمة (فكر) عند استعمالها، "ذلك أن كلمة (فكر) تعني في الاستعمال الشائع اليوم إلى مضمون هذا الفكر ومحتواه، أي جملة الآراء والأفكار والمسائل المعبّر عنها في هذا الفكر" [6]. وهذا ليس موضوع أركون وليس هو هدفه: "إني أهدف إلى دراسة بنيه العقل الديني وطريقة اشتغال العقل الديني ووظائفه ولا تهمني مضامين العقائد والمذاهب بحدِّ ذاتها، فالمضامين والتفاصيل قد تختلف، ولكن الآليات واحدة" [7].
وكما يقول فالجابري: "لو فعلنا ذلك [أي استعملنا كلمة فكر] لساهمنا في إعطاء القارئ لعنوان الكتاب فكرة أبعد ما تكون عن مضمونه الحقيقي ... ذلك لأن ما سنهتم به في هذا الكتاب ليس الأفكار ذاتها؛ بل الأداة المنتجة لهذه الأفكار" [8]. ولذا كان استخدام كلمة (العقل) أدق وأقرب للتعبير عن طبيعة مشروعيهما، خاصةً بعد تطور مفهوم العقل.

خلاصة القول أن مفهوم (العقل العربي/ الإسلامي)، يتمثل في مجموع المبادئ والمسلمات القبلية التي من خلال يفكر العقل المسلم الفردي، ويصدر أحكامه ويتخذ مواقفه تجاه الواقع.

ولكن ثمة إشكال قوي، دائماً ما يطرح على محمد أركون، حين يستعمل عبارة (العقل الإسلامي)، وهو أن هذا الاستعمال يُشعِر بوجود عقلٍ واحد يمكن تحديده والإمساك به، مع أن الواقع والتاريخ يقول بخلاف ذلك!

فهناك في التاريخ الإسلامي، أنظمة فكرية متعددة، حصرها الجابري - مثلاً - في ثلاثة أنظمة/عقول: عقل بياني، وعقل عرفاني، وعقل برهاني. وهناك من يفرِّع هذه الأنظمة الفكرية إلى ما هو أدقّ، فيقول: عقل كلامي، وعقل فلسفي، وعقل صوفي، وعقل خارجي، وعقل سني، وعقل شيعي ... إلخ. وكل عقلٍ من هذه العقول، له ومبادئه وأصوله الفكرية، التي تميز منهجيته عن غيره من العقول في النظر والاستدلال. فكيف إذن تختزل هذه (العقول/المناهج) في عقل واحد، وهي بهذا التعدد والاختلاف المنهجي؟ بعبارة أخرى؛ ما هو العقل الإسلامي الذي يعنيه أركون من بين هذه العقول؟
في الحقيقة أن أركون لا يجهل هذا التنوع والاختلاف في داخل إطار العقل الإسلامي، فهو يدرك أن هنـاك "عقول إسلامية (بالجمع)، لا عقل إسلامي واحد" [9] ، وعندما نقارن - كما يقول أركون - "بين مختلف هذه العقول، أقصد عقول المدارس الإسلامية المختلفة، كعقل الصوفية، وعقل المعتزلة، وعقل الإسماعيلية، وعقل الفلاسفة، وعقل الحنابلة، وعقل الشيعة ... إلخ؛ فإننا نرى أنها تختلف في مجموعة من المجريات والمسلمات في لحظة الانطلاق، وعندما ننظر إلى التاريخ نجد أنها طالما اصطرعتْ وتنافست وتناحرت" [10]. بمعنى أن العـقل الإسلامي بالفعل "عقل تعددي متنوع لأنه يعتمد أنماطاً متعددة من المرجعيات والسيادات الثقافية" [11].
ولكن في نفس الوقت "عندما نعمِّق التحليل أكثر، وننظر إلى ما وراء القشرة السطحية والخلافات الظاهرية، فإننا نجد أيضاً أن هذه العقول تشتمل على عناصر مشتركة أساسية، وهذا العناصر المشتركة هي التي تتيح لنا أن نتحدَّث عن وجود عقل إسلامي (بالمفرد) بمعنى أنه يخترق كل هذه العقول المتفرعة ويشملها كلها" [12].

ولهذا ينتقد أركون المنهجية الاستشراقية في دراستها للفرق الإسلامية والتي التزمت بالتصنيف والتقسيم الذي كان يسلكه علماء الفرق في الإسلام، وهو يخصُّ هنا بالذكر كتاب (هنري لاوست) "الانشقاقات في الإسلام"، الذي يقول عنه: "نلاحظ في هذا الكتاب أن العقائد وممثليها من المؤلفين قد ذُكرتْ بشكل مختصر ضمن تسلسل زمني وسياسي دقيق. ولكن مفهوم العقل الإسلامي قد تفكك فيه وانحل إلى غبار متناثر من الأفكار والشخصيات والأحداث. إن المؤلف يهتم فقط بتبيان التناقضات والخلافات السطحية بين المدارس الفكرية الإسلامية. ولكننا نعلم أن هذه التناقضات السطحية تخفي وراءها السمات المشتركة العميقة" [13].
هذه العناصر المشتركة والتي تمثَّل - في نظر أركون - البينة العميقة للعقل الإسلامي، يمكن تحديدها من جهتين:
1) من جهة المنهج الذي ينطلق منه ذلك العقل .
2) ومن جهة المبادئ والمسلمات القبلية التي تحكم ذلك المنهج .

أما من جهة المنهج، فقد فضل أركون أن ينطلق من أهم المؤلفات المعيارية الكبرى في الإسلام، ويُفضَّل أن يكون ذلك من لحظات النضوج والتأسيس للفكر العربي والإسلامي، كما ويُفضّل أن يكون من الكتب التأسيسية في أصول الفقه، وذلك لأن علم أصول الفقه في نظر أركون، "يشكِّل بناء متماسك يتيح لنا أن نستخلص مفهوما فعالا من الناحية التاريخية والتأملية للعقل الإسلامي الكلاسيكي" [14].

لقد اختار أركون أن يتخذ رسالة الإمام الشافعي رحمه الله، "الرائز [15] المعياري، الذي يمكن الاتكاء عليه للتوصل إلى تحديد وبلورة العقل الإسلامي الكلاسيكي" [16]. وذلك لأنه "مؤلَّف معياري اعتُرف به منذ القرن الثالث الهجي بصفته محلا للإجماع والإشعاعات المختلفة" . ولأنه "يُعتَبر المؤلَّف الأول لتأسيس ما ازدهر بعده باسم أصول الفقه" [17].

إذن الرسالة في نظر أركون تعتبر بداية أو تأسيس للعقل الإسلامي، وبالتالي لا بد من تحليليها، واستكشاف المبادئ التحتية العميقة أو الضمنية التي تشكِّل كل خطاب الرسالة وتنتجه .

وغنى عن القول بان الإمام الشافعي رحمه الله قعَّد الأصول المنهجية التي تحقِّق القراءة الصحيحة للوحي، كالتسليم بـ "أن كل ما أُنزل في كتابه - جلّ ثناؤه - رحمةٌ وحجةٌ، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله ... و أنه لا تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" [18]. وهذا أصل أولي بدأ به رسالته .

ثم قرر بأن العلم بالقرآن لا يتم إلا بمعرفة بيانه، ولهذا البيان وجوه [19]: منها "ما أبان الله لخلقه نصا" . ومنها "ما أحكم فرضه بكتابه وبين كيف هو على لسان نبيه" . ومنها "ما سنّ رسول الله مما ليس لله فيه نصّ حكم" . ومنها " ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد" .

وبناء على ذلك انتهي الشافعي إلى التقرير بأن العـلم عن الله ورسوله ما هو إلا اتباع، "فلم يجعل الله لأحد بعد رسول الله، أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهة العلم: الكتاب، والسنة، والإجماع، وما وصفت من القياس عليها" [20]. وهذه المصادر مرتبّة على الأولوية، فالإتباع أولاً: "اتباع كتاب، فإن لم يكن فسنة، فإن لم تكن فقول عامة من سلفنا لا نعلم له مخالفا (الإجماع)، فإن لم يكن فقياس" [21].

ثم قرر رحمه الله بأن السنة وحي كالقرآن، "وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله، والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قَبل" [22]. وهذا النقطة على وجه الخصوص تعتبر بمثابة حجر الزاوية بناء الفكر الإسلامي . ولهذا يقول أركون: "ينبغي العلم هنا بأن الجميع يعترفون للشافعي بميزة أنه فرض الحدث النبوي، وللمرة الأولى، بصفته المصدر الأساسي الثاني للتشريع بعد القرآن" [23].
طبعا هذه دعوى معروفة لدى العقلانيين [24]، وهي أن الشافعي هو أول من قام بـ (تأزيم) الفكر الإسلامي حين رفع الحديث النبوي إلى مرتبة الوحي وكأن المنهج لم يكن هكذا قبله، ومعلوم أن الشافعي لم يقرر ذلك باجتهاده المحض، وإنما كان منهجا قبله ثابتا سارٍ لدى عامة أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين . وقبل ذلك هو أمر الله تعالى الصريح في كتابه، كما أنه مقتضى الإيمان بالنبوة .
ومن معالم هذا المنهج، الاعتماد على لسان العرب فهم كلام الله وكلام رسوله . يقول أركو: "قبل القيام بالقراءة الصحيحة للقرآن ينبغي على المسلم أن يزيل عقبة معرفية أو ابستمولوجية بحسب ما يقول لنا الشافعي. يقول بالحرف الواحد: ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما أُنزل بلسان العرب" [25]. ويعلل هذا الشافعي بقوله: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحدٌ جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيها وتفرقها" [26]. ماذا نستنتج من ذلك؟ يقول أركون: "نستنتج طبقا لمنطق الشافعي بالطبع أن هناك علاقة لغوية إجبارية تربط بين الحقيقة المتعالية والمطلقة التي أوحى بها الله من جهة، والقوانين أو الأحكام من جهة ثانية، والصيغ اللغوية التي تلبستها في القرآن باللغة العربية من جهة ثالثة. بمعنى آخر، لا يمكن التعبير عن الحقيقة الإلهية إلا باللغة العربية، وذلك لأن القرآن نزل بها، فهي لغة الكتاب المقدس إذن" [27].

إلى آخر معالم هذه المنهجية التي أصلها الإمام الشافعي في كتابه الرسالة. والحقيقة أن أركون لا يهمه كثيرا مناقشة تفاصيل هذه المنهجية، إنما الذي يهمه محاولة الكشف عن البنية الخفية التي تقف وراءها كما يقول، أي محاولة إبراز المبادئ والمسلمات الضمنية التي بررت للإمام الشافعي بناء هذه المنهجية. والتي تعبر عن محددات العقل الإسلامي من وجهة نظر أركون.
إن الكشف عن المقدمات القبلية لهذه المنهجية ومحاولة تفكيكها ونقدها تاريخيا هو الذي سيؤدي - بحسب أركون - إلى تثوير العقل الإسلامي، بخلاف الانشغال بالمماحكات اللاهوتية الشكلية حول صحة هذه المنهجية من عدمها .

هذه المبادئ التي انبثقت منها منهجية الشافعي، والتي تُعتبر بمجموعها التأسيس الأولي للعقل الإسلامي، يكشف عنها أركون في النقاط التالية [28]:

1) يوجد إله واحد، حي، خالق .

2) اتخذ الإنسان كخليفة له على الأرض .

3) وقد تكلم إلى البشر عدة مرات، أو على مراحل متلاحقة، من خلال الأنبياء الذين اختارهم .

4) وكانت آخر مرة تكلم فيها إلى البشر من خلال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) .

5) وقد استمع صحابة محمد إلى هذا الكلام بكل تقى وورع، وحفظوه في ذاكرتهم ونقلوه .

6) ثم دوّنوه كتابة في مجموعة نصية دعوها بـ (المصحف). فالمصحف يعني إذن مجموعة النصوص أو العبارات التي تشكّل القرآن.

7) والقرآن يعني كلام الله المتلوّ شعائريا، والمقروء، والمفسّر، والمعاش بصفته القانون الإلهي، الأبدي، الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يُمس، والصالح لكل زمان ومكان.

8) ثم جاءت أحاديث النبي لكي توضح هذا الكلام وتشرحه، وقد جُمع الحديث بنفس الخشية أو التقى والورع الذي جُمع فيه المصحف، لكي يصبح الأصل الثاني للقانون الإلهي، أي الشريعة .

9) أن صحابة النبي يشكّلون جيلا ممتازا ومتميزا، وهم مزودون بمقدرة عقلية وفكرية مثالية تؤهلهم لأن يشرحوا الآيات القرآنية والأحاديث ويطبقونها في الواقع بكل إخلاص ودقة وأمانة، وبالتالي كان عصرهم (العصر الذهبي)، وكانوا هم الرعيل الأول .

10) يمكن للإنسان المسلم في أي زمان أن يصل إلى الحقيقة الدينية المطلقة، ويجسدها باستعادة ذلك (العصر الذهبي) الذي يمثل إسقاطا لجوهر الدين في التاريخ البشري وتحققا له .

هذا هي المسلمات والمبادئ القبلية لدى العقل الإسلامي - بحسب أركون - والتي بمجموعها تشكّل نظاما معرفيا ملزما، ومقدمات ضمنية توجه الفكر الإسلامي توجيها حتميا حتى وهو يمارس علوما مختلفة في الظاهر (الفقه، الفلسفة، علم الكلام، اللغة والنحو، ...) .