كان قلمي يلملم حروفه ويجمع بين كلماته لينسج مساهمة في موضوع ما ، ولكن حينما قرأت عن موت طفل اغتصابا عانق الرابعة من العمر ، و قد رضخ رأسه بحجارة كرهت الحجارة أن تلامس براءته و لكن أبت يد الظالم إلا أن تطمس تلك البراءة بسواد ظلمها ، و من ذي قبل حدثتنا حلب أيضا عن اغتصاب طفل مكثت البسمة خمس سنين على جبين حياته ، والعثور على جثته في كيس أسود في إحدى حدائق حلب ، غيرت هذه الحادثة مجرى قلمي وانعطفت به باتجاه آخر ، فهذه الصورة البشعة ومن خلفها مثيلاتها من قتل طفل من قبل والده تحت وطأة التعذيب الملقب بالتأديب ، ومن رسم البعض لوحة الفقر والبؤس على وجوه أولادهم ، وبأيدهم خرقة أكل عليها الدهر وشرب ، يمسحون بها زجاج السيارات حتى ينالوا من أصحابها وطرهم من فتات نقودهم ، تلك اللوحات القاتمة الغائمة عن طفولة معذبة أوقدت في صدري جمرة الألم ، وكلَمت فؤادي كلماً سالت منه قطرات ، كل واحدة منهن تحكي قصة صرخة طفل ، تجرع علقم الدنيا وناله من مرارتها بأيدي أناس خلت قلوبهم من معاني الرحمة
وماتت ضمائرهم من لحظة ولادتها ، وإلا كيف سمحت لهم أنفسهم ، وكيف أجازت لهم ضمائرهم ، أن يفترسوا طفلاً لم تشفع له أطياف براءته ، ولا دمعات حزنه ، ولا آهات آلامه ، فسالت دماؤه ناطقة ماذا اقترفت يداي ؟ ماهو الذنب الذي ارتكبته ؟ لا أعلم!!! سوى أني ولدت من رحم البراءة ، أبتسم للشمس وقت ضحاها ، وأغرد مع البلبل المترنم ، وأزهو مع الفراشات الراقصة على لحن أزهار الربيع ، وأرى كل الأشياء صفاءً وبياضاً لأن قلبي لا يعرف سوادا أبداً ، ويجهل الخداع ويمقت المكر ويذم الغش ، تلك هي طفولتي فلا أدري!!! لم اخترقت أنياب الشر جسدها ، لم صيّر الإجرام مدينة براءتي دماراً ، قتل فيها مفاهيم الحياة ، وكتم صوت البلابل المغردة ، وألهب جسد الفراشات الجميلة بضياء ناره المحرقة ، وصبغ أطياف سعادتي بسواد ظلمه القاتم .
أنا الطفل الذي سفكت أحلامه ، أنا الطفل الذي كتمت أفراحه ، أنا الطفل الذي مات مظلوماً فهل لي من ناصر ؟ . إن دمعي لن ينضب ، وإن حزني لن يبرح قلبي ، وإن آهاتي لن تهدأ حتى أرى الطفولة محررة طليقة سعيدة .
ويسري إلى قلمي حديث سمعته أذناي ووعاه قلبي ، حينما ألبس هذا الحديث الشريف الطفولة رداء الرحمة وكساء الحنان ، فقد قبّل النبي صلى الله عليه وسلم ولد ابنته الحسن بن علي رضي الله عنهما ، والأقرع بن جابر التميمي جالس عنده ، فقال الأقرع بن جابر : يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم قط فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ نظرة يمقت فيها جفاء الجاهلية وقسوتها ـ وقال له : (( من لا يَرحم لا يُرحم )) .
فليت شعري أنسي هؤلاء الذين قتلوا الطفولة واغتصبوا براءتها الرحمة ؟أم أنها نسخت من قاموس ضمائرهم ؟
لا ننكر جهود الأمن ، و لكن لابد من زيادة الحزم مع تعميق الوعي و تنمية الضمير .
و أخيرا أختم مقالتي بكلمات لشاعرنا بدوي الجبل ، و ما أجملها من كلمات حينما فاح منها مسك المعاني :
وسيماً من الأطفال لولاه لم أخف = على الشيب أن أنأى و أن أتغربا
تود النجوم الزهر لو أنها دمى = ليختار منها المترفات ويلعبا
وعندي كنوز ٌ من حنان ورحمة = نعيمي أن يغرى بهنّ وينهبا
يجور وبعض الجور حلو محبب = ولم أرى قبل الطفل ظلماً محببا
ويغضب أحيانا ويرضى وحسبنا = من الصفو أن يرضى علينا ويغضبا
و إن ناله سقم تمنيت أنني = فداء له كنت السقيم المعذبا
ينام على أشواق قلبي بمهده = حريراً من الوشي اليماني مذهبا
وأسدل أجفاني غطاء يُظله = و يا ليتها كانت أحنّ و أحدبا
ويارب من أجل الطفولة وحدها = أفض بركات السلم شرقاً ومغربا
وصن ضحكة الأطفال يارب إنها = إذا غردت في موحش الرمل أعشبا
ويارب حبب كل طفل فلا يرى = وإن لج في الإعنات وجهاً مقطبا
وهيىء له في كل قلب صبابةً = وفي كل لقيا مرحباً ثم مرحبا
أخبار من العالم بنكهة سورية
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)