من (أجساد فيرحم الأرض) لـ آل مرعي


فَتَحَ الباب ودخل...
كان يحك صلعته التي بدا وكأنها تستبد بنصف رأسه...
ولكنه سعيد.
المنزلخالٍ لا شيء فيه... سوى الصمت المطبق... وصوت هديرٍ خافت ينبعث من مؤخرةالثلاجة.
مد يده بهدوء وكسل... ليضيء نور (الأبجورة) الزرقاء... بجوار المقاعدالجلدية الأنيقة... في الجهة اليسرى من غرفة الجلوس... ووضع الكيس الذي يحويزجاجتين ــ مُعتَّقتين ــ على الطاولة الرخامية... وجلس.
وبعد لحظات بدأ الضجيجينبعث من التلفزيون... وانتشرت على الفور سحابة الدخان المنطلقة من بين شفتيه... كيتزيد من اكتئاب الجو الراكد داخل تلك الغرفة الأنيقة!!
...
هل يَتَعشَّى أولاً،أم يعبُّ شيئا من (البيرا)
- "
أوه... ما أجمل أن يدخل الإنسان في غمرة الجنون،ويخرج من هذه الحياة الجادة"
...
حُسِمَ الأمر... وفُتحت قنينة الويسكي...
- "
لا حل سوى كأس مُتْرَعْ"
امتلأ الكأس... وبدأ الريموت يُغيِّر طبعات الوجوه علىالشاشة المضيئة... عشرات القنوات تعرض نفسها... إنها ترسم صورة صادقة... وصادقةجداً... لمتناقضات الحياة... وللخلاف... والاختلاف... ولكن:
- "
ماذا يريد كلهؤلاء؟... ماذا؟... وتلك الفاتنة الجميلة... لماذا تعرض نفسها بكل هذا الإغراء... شيء يدعو للتأمل... ماذا تراها تطلب من المشاهدين... أو ماذا يطلبه منهاالمشاهدون... أوه التعري... نعم... التعري... لقد أصبح التعرِّيُ صورة شائعة... وملفتة"
رفع قنينة الخمر وقال في ذكاء...
ــ «المرأة... لقد أصبحت المرأةتماماً كقنينة الخمر... نتمتع بها لحظات... ثم نلقيها في السلَّة... المرأة نعمة... والعُرْي نعمةٌ أكبر... إنه زمن العروض المجانية... هــ هــ هــ...»
استمريقلِّب القنوات بطرب وخفة... ولكن!!
ــ «أوه... هذا ليس وقتك الآن... قل لي... لماذا أتيت... انصرف من أمامي هيا... هــ هــ»
إنها صورته... نعم صورته هوشخصياً... وهي تُعرض الآن في إحدى القنوات... إنه ممثل كبير... كبير جداً... ومشهورجداً... ولكنه لا يحب أن يُعيد مطالعة الأفلام التي مثلها سابقاً... لأنه في بعضالأوقات... ربما... يحتقر نفسه.
قلَّب المزيد من القنوات... شاهد لقطة قذرةجداً... من فلم قذر جداً... أحسَّ أنه استمتع بها قليلا... سيواصل تقليب القنوات... عساه يحظى بلقطة سريعة وقذرة... لأنها تمثل مكسباً لا بأس به... رفع الكأسبيسراه... ليلقي بأول جرعة في جوفه:
- "
ماذا...؟؟"
صورته مرة أخرى... وفيقناةٍ أخرى... ولكن... إنها تبدو بتناقض مذهل مع حقيقته... ومع وضعه الراهن... وأيضاً مع صورته في الفلم السابق... إنه في الشاشة الآن... ويبدو تقيَّاً وورعاً... وعمامته البالية... وثوبه المرقع... تجعلانه أقرب ما يكون... لحال السلفالصالح.
ولكنه لا يدري... لماذا انشدَّ لصورته هذه... إنها تذكرة بمرحلة منحياته... لقد مثَّل أدواراً كثيرة... وبطولات كثيرة... ولكن دوره في هذا المسلسل... يختلف تماماً... لأنه الآن يمثل دور عمر... نعم... عمر بن عبد العزيز.
ـمَشْهَدان متناقضان... أحد هما داخل الشاشة... والآخر خارجها... أحدهما وهو يحملالمصحف... والآخر وهو يحمل كأس الخمر... وكلاهما لرجل واحد.
ولكنّ الصورة شيء... والحقيقة شيء آخر... عمر هناك... يدوِّن مال بيت المال... ويَحْرم نفسه العسل... ويتقشف حتى العدم... ثم يقول باكياً:
ــ «يا ويلي... كيف ألقى الله غدا»
ثمينظر عبر الشاشة إلى الأفق البعيد ويقول:
ــ «متى أحطَّ رحالي... وانْفَك منقيودي... وارحل... ارحل إلى الله... إلى حبيبي»
الحقيقة تنظر إلى الصورة... والصورة... أكثر تعبيراً عن حقيقة الإنسان... والحقيقة ربما كانت تعبِّر عن صورة «اللا إنسان».
سقطت قنينة الخمر على الأرض... انكسرت... وتناثر السائل... وتناثرت معاني كثيرة... قد تشرَّب بها قلب هذا الممثل الكبير.
لقد تصلبت عيناهالحقيقية... على عينيه في الصورة... وبدأت الأعين تتحدث... من يا ترى سينتصر... عينا الصورة... أم عينا الحقيقة... عينا عمر... أم عينا الممثل.
مرت مشاهدالمسلسل سريعة... وبدأ عمر بن عبد العزيز يحتضر... إنه الآن يُغرغر... وهو مستعدليموت... ثم يستريح من عناء هذا العالم.
تذكر الممثل كل هذه اللحظات... حين كانيمثلها... تذكر قصراً شامخاً تربع على أريكته يوماً... إنه قصر التقوى والإيمان... عمر يحتضر... وينظر إلى الملائكة... والممثل هنا ينظر إلى الحياة بمنظار آخر... إنهيسأل نفسه..
ــ «من هم السعداء؟ ... من هم الأسوياء؟»
ربما أجابت عينا عمر... حين أسدلتا دمعتين صافيتين... ثم ذبلتا:
- "
السعداء... هم أولئك العظماء... الذين ينجحون في استقبال الموت... وقلوبُهم مفعمة باليقين... وصحائفهمبيضاء"
مات عمر... وأطفئ التلفاز... وقُتل شبح الإثم... في نفس الممثل... وأسدلدمعات حارة:
- "
لابدَّ من فتح صفحة بيضاء... مع الله"