منذ الانتخابات النيابية الماضية، يواجه الفريق الحليف لسوريا عملية إعادة ترتيب. دمشق نفسها شعرت بأنّ عودتها إلى التفاصيل اللبنانيّة توجب عليها التعامل بطريقة مختلفة مع الجميع، بمن فيهم الحلفاء. والقوى نفسها شعرت بأنّها أمام سوريا جديدة، رغم أنّ في لبنان، كما في دمشق، من يرغب في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة تنظيم العلاقات مع سوريا على ما كانت عليه قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري،لكنّ الواضح أنّ الرئيس بشار الأسد بدا راغباً في تركيبة أخرى، كما كان يرغب أيضاً في تضييق استقبالاته اللبنانيّة إلى أدنى الحدود.لكن ثمة قواعد ستظل أقوى منه وأقوى من اللبنانيين جميعاً. وهي القواعد المتصلة بالصراع مع إسرائيل من جهة، وبطبيعة النظام الطائفي في لبنان من جهة أخرى. وهذا يعني أن الأسد مضطر إلى العودة إلى أسلوب والده الراحل في توزيع التواصل على النافذين الفعليين في كل طوائف لبنان، مع إضافة لا يبدو أنها حققت اختراقاً كبيراً في التركيبة الطائفية والمناطقية، ومع تمايز للبعض من هذه القوى، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أثبت خلال استحقاقات المرحلة الماضية أنه ما زال قادراً على تجاوز الحالات الطائفية والمناطقية، وأن قواعده كافة، برغم الخلافات التنظيمية القائمة، يبدو موقفها السياسي متجانساً إلى حدود بعيدة، بخلاف التكتلات العلمانية الأخرى، وخصوصاً اليسار الذي ضاع بين الفريقين.لكن الواضح أن الأسد يريد تحقيق تغيير ممكن في مقاربة ملف لبنان، وهو لم يُعد الاعتبار إلى تركيبة كانت قائمة في دمشق سابقاً، وكان يمثّلها في ذلك الوقت أعمدة من النظام، ولا يزال البعض موجوداً وله حضوره القوي داخل مؤسسة النظام وعلى مستوى الفعالية في لبنان. لكنّ الأسد وجد أنه يفضّل تركيبة ذات هرمية واضحة تعود إليه عمودياً لا أفقياً، ويفضّل أن يكون التواصل قائماً وفق موقف واحد في الشكل والمضمون، ولا تمايز فيه على الإطلاق، الأمر الذي يحتّم عليه الحضور المباشر في أوقات معينة. ❞تمييز لحالة نصر اللّه وعون والقوميّين، وإطار خاص لبرّي وفرنجيّة، واختبار الثقة الحاسم لجنبلاط وآخرين❝ما تغيّر في سلوك سوريا بعد اغتيال الحريري وانسحاب جيشها من لبنان هو التعامل بواقعية شديدة مع مرجعية حزب اللّه لإدارة الملف اللبناني. ولوقت طويل، كانت دمشق تعيد كل المراجعات إلى الموقف النهائي لقيادة المقاومة ولشخص السيد حسن نصر الله على وجه التحديد. وبعد حرب تموز 2006، ثبّتت دمشق هذه القاعدة وعمّمتها بوضوح أكبر، وبدا قسم كبير جداً من قوى المعارضة يعمل وفق هذه القاعدة. وهو الأمر الذي لم يتغيّر اليوم، لكنه أخذ شكلاً مختلفاً مع طلب حزب الله من القيادة السورية مساعدته في معالجة أمور لبنانية لا العكس فقط.الأمر الآخر الذي أدخل تعديلاً جوهرياً على سلوك سوريا، هو العلاقة المستجدة مع العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر. فقد انضم التيار سريعاً ليحجز موقعاً لصيقاً بالموقع الذي يحتله حزب الله والسيد نصر الله لدى سوريا، وإن كان التقدم واضحاً للحزب. وهو أمر لا يثير حفيظة أحد في سوريا ولا في لبنان. لكن الحقيقة النهائية أن سوريا تتصرف على أساس أن لديها حلفاء كثراً في بيروت، يتقدمهم السيد نصر الله والعماد عون، ويبدو أن الرئيس السوري على وجه التحديد، مرتاح إلى هذه العلاقة، وخصوصاً أن حزب الله والتيار الوطني الحر لا يمثلان عقلاً تبعياً كالذي يمكن العثور عليه عند قوى كثيرة من فريقي المعارضة و14 آذار.وهذا الكلام لا يعني على الإطلاق تراجع أدوار آخرين، مثل النائب سليمان فرنجية أو النائب طلال أرسلان أو شخصيات من معارضي الحريري . لكن طبيعة المعركة القائمة الآن تحت عنوان المحكمة الدولية، والتي تشتمل على عناصر أخرى مرتبطة بالواقع السياسي اللبناني، تدفع إلى الاعتقاد بأن سوريا تتصرف على أساس أنها أمام ثلاثة أنواع من الحلفاء أو الأصدقاء:
الأول، يمثله حزب الله والتيار الوطني الحر والحزب السوري القومي الاجتماعي وبعض الشخصيات الأخرى، وهو الفريق الذي يحظى بثقة كاملة من القيادة السورية.الثاني، يمثّله الرئيس نبيه بري والنائب سليمان فرنجية، وهو الذي يحاول في الفترة الأخيرة انتزاع مساحات وهوامش تدل على وجود حسابات أخرى، مثل أن رئيس المجلس متّهم من أوساط نافذة في الفريق السياسي اللبناني وفي دمشق بأن عقله السياسي والعملي يجعله أقرب إلى تسوية تعيد إنتاج قواعد اللعبة ذاتها التي كانت قائمة قبل 2005. أمّا فرنجية، فيظهر أخيراً أنه مهتم بصورته كمرشح جدّي للرئاسة المقبلة، وهو أمر يفرض عليه ــ كما يعتقد ــ أسلوباً مختلفاً في مقاربة بعض الملفات، فيبدو في الظاهر أقلّ حسماً، وإن كانت حقيقة الأمر عكس ذلك.الفريق الثالث، هو الفريق المنتشر بين حلفاء بدوا في موقع انتهازي يوم ضعفت سوريا ولكنهم لم يبادروا إلى الطعن في ظهرها ولا إلى خيانتها، وهم الآن يسعون إلى ترتيب الأمور بطريقة تذكّر بالماضي. وهؤلاء يمثّلون حشداً كبيراً من القوى الصغيرة ومن الشخصيات الطامحة إلى أداء أدوار مختلفة.أما الآخرون الذين سيضطرون إلى مزيد من الاختبارات، مثل النائب وليد جنبلاط، فإنّ سوريا تقدّم الكثير من أجل حفظ العلاقة المستجدة معهم، لكنّها تريد الآن الدخول في مرحلة المواقف الحاسمة.وأمام جنبلاط أسبوع من التحديات التي تعكس قراره الفعلي في أي ضفة يقرر أن يكون.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)