مذكرات مغترب (3)... (قتل النفس)


رجل أعمال جزائري بسيط، لكنه نشيط جداً، يتنقل في اوربا ويشتري البضائع، جاء إلى هذه المدينة، وكعادته (كما أعلمني لاحقاً) يأتي إلى المسجد على أمل وجود أحد من العرب ليساعده في الترجمة، التقيت به عقب صلاة الجمعة في الجامع الوحيد هنا، وطلب مني المساعدة فقلت له أهلاً وسهلاً، عملي لا يسمح لي بأن أكون برفقتك، لكنني سأجد من يقوم بذلك.... وهكذا أصبحنا أصدقاء.


لاحقاً، في إحدى زياراته لهذه البلاد، أحضر معه زوجته الرومانية، تعارفنا، أم الأمين، تجيد العربية وتتقن اللهجة السورية واللبنانية فقد كانت متزوجة من رجل لبناني ولها منه ولد اسمه الأمين.


أم الأمين في العقد الخامس، شديدة سواد الشعر بحلة بيضاء وعيون واسعة بلون البحر تمتلك نظرات عجيبة تتمازج بين الجرأة والخشونة، تتمتع بجمال الغجرية الغامض.

ظهرت فرحتها عندما بدأت تتحدث إلي باللهجة السورية، فهي تتفاهم مع زوجها بعناء بسبب لهجته، فأخرجت من محفظتها صورة الأمين وقالت لي : انظر ، إنه أجمل شاب في مدينتنا، كأنه ألماني أصلي، يدرس في كلية الطب وأملي أن يتخرج في العام القادم...

لم ننته من شرب القهوة عندما صار حديثنا يتمحور حول المطبخ اللبناني والسوري، فخطر ببالي أن أجهز الطعام لضيوفي، خاصة وأن غرفتي تضم المطبخ وركن الطعام فلا أنشغل عنهم، فسألتهم إن كانوا يحبون "الملوخية" وكانت فرحتي كبيرة عندما أجاوبوا بالايجاب، فقلت لهم خلال ساعة ستكون جاهزة.


تحدثنا كثيراً، عن الغربة وهمومها، عن المشاكل التي يواجهها الأبناء.....

كنت أظن أن صديقي يفكر في تجارته وهو يهز برأسه لسماع أحاديثنا دون تعليق، إلى أن خرج عن صمته وقال مبتسماً، تتحدثان وكأنكما أصدقاء منذ مئة عام.... فأجابته أم الأمين : ربما ... وما يدريك ؟؟ قد نكون التقينا قبل مئات السنين...


فجـّر كلامها في رأسي الكثير من الأفكار فأحببت أن استخرج شيئاً من موروثها الثقافي، فبدأت بإعداد الطعام وأنا أتابع معها في الحديث عندما تذكرت أنني قرأت يوماً إحصائية تقول بأن نصف نساء رومانيا يعملون في السحر، وجميع نسائها يهتمون به.


نظرتُ إلى وجهها بإمعان فقرأتْ نظرتي وابتسمت قائلة: هل تحاول أن تتذكر إن كنا قد التقينا قبل مئات السنين؟

ماذا ترى في وجهي ؟؟ قلت : أرى تفاصيل جميلة لكنها...

_ لكنها ماذا ؟ ليست متناسقة ؟؟ كأنه وجه رجل، وليس وجه إمرأة..... انظر إلى هاتين اليدين، أظنها تليق بأن تكون أيدي رجل وليست أيدي أنثى...

أخافتني جرأتها وصدقها في التعبير وصراحتها ، تابعتْ حديثها

_ هل تعلم أني أكره المطبخ ؟؟

_ مثل كل أنثى

_ لا ، مثل كل رجل، أنا أؤمن بأني كنت أعيش قبل الآن ، وكنت رجلاً ، وقـُتـِلتُ ...

_ كيف ؟؟

_ كنت فارساً على صهوة جوادي عندما قتلتُ بالسيف في معركة في أرض العراق.... ظللت فترة طويلة من حياتي أرى ذلك الحلم، وفي بعض الأحيان كنت أتألم هنا وأشارت إلى مكان إصابتها بالسيف بين الكتف والعنق.

ظهرت الابتسامة على شفتي فقط، أما باقي تعابير وجهي فكانت تشير إلى الحيرة والدهشة، وقلت لها مازحاً:

_ من أجل هذا أنتِ تتقنين اللغة العربية؟؟

_ كنت أرى ذلك الحلم يومياً عندما كنت صغيرة، وأنتَ ؟ ألا تتذكر حلماً كان يتردد عليك في صغرك وغاب عنك لاحقاً ؟؟؟

_ نعم، كنت أرى أنني قـُتلتُ بالرصاص في الحرب في أرض فلسطين، وأشرتُ إلى مكان الرصاصات في صدري قائلاً : لازلت أتذكر ذلك الشعور حينما كان الدم يخنقني قبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة، لكنني أعتقد أنها أضغاث أحلام.....

_ أعرف كل الأديان، قرأتُ عنها الكثير، أنا لا أنتمي إلى أي دين من الأديان، لكنني أؤمن بقوة بأن لهذا الكون رباً واحداً، هو الخير ولا أؤمن بوجود الشر أبداً، وما نسميه شراً ماهو إلا استخدام الخير في غير موضعه نتيجة جهلنا ، أو على الأقل الامتناع عن فعل الخير..... فالأدوات التي نستعملها في الشر ( القوة، المال، السلطة، السلاح، المرأة، الأخلاق ....) هي نفسها أدوات الخير. وأؤمن بشدة أن هذا الرب هو الذي خلق الانسان من روحه، ووهبه الحياة في وقت ما وفي زمان ما، وهو وحده صاحب الحق في تحديد زمان ومكان نهاية تلك الحياة، وليس لأحد الحق في أن يسلب الانسان روحه، وإن تعرض الجسد للقتل فإن روح المقتول لاتزال تبحث عن جسد آخر تسكن فيه لتنهي معه مدة الحياة التي حددها الخالق مسبقاً. القتل هو أكبر جريمة على الاطلاق....

_ وهل وصلتِ إلى كل هذه القناعات بسبب ذلك الحلم الذي كنتِ تتحدثين عنه ؟؟

_ لا أبداً، ايماني هذا نتيجة حقائق عشتـُها ...........

عادت من جديد وأخرجت صورة الأمين، وقالت : عندما كان في الرابعة من عمره وفي أيام الفوضى التي حصلت يوم سقوط الزعيم تشاوشيسكو، هربت مع أختي وولدي الأمين إلى ألمانيا، لا حظت أن ابني يفهم الكثير من كلام الألمان فاعتقدت أنه نتيجة مشاهدته للصور المتحركة في التلفزيون، لكن بعد أيام قليلة بدأ يتكلم اللغة الألمانية بشكل ممتاز، ومع ذلك لم أصب بالدهشة إلا عندما استوقفني مرة في الشارع ليقول: أمي قفي لحظة ، بدأت أتذكر.... أنا كنت أعيش هنا، انظري إلى هذا المبنى الكبير، هنا كان مكانه مبنىً من خمس طوابق فقط، وأنا كنت أسكن هنا مع زوجتي وأطفالنا الخمسة، وأنا قـُتلت في الحرب العالمية الثانية، أستطيع الآن أن آخذك إلى السوق، خلف هذه البناية توجد حديقة وفي الجهة الأخرى ملعباً لكرة السلة، وفي الشارع التالي كانت مدرسة أبنائي....

تقول أم الأمين دهشتي الكبيرة كانت عندما وجدت أن كلامه صحيحاً، وكان يوجهني للوصول إلى سوق المدينة.


أما أنا فرحتُ أحدق بأم الأمين وأقلب كلامها في رأسي وأبحث عن شيء ما أنطق به، لكنها استأنفت حديثها قائلة: ألا تصدقني ؟؟ لا يوجد أي مبرر لأخترع لك كلامي....

_ ليس الأمر تصديق أو تكذيب ، إنما هي معتقدات، أنا أفكر بأنه لا يجوز أن نتصور أن تكون كمية الأرواح محدودة حتى تأتي روحاً شبه مستهلكة لتسكن جسد مولودٍ وُلدَ حديثاُ....

_ ليست محدودية ، إنما أنا أتكلم عن مشيئة الخالق التي يجب أن تنفذ لا محالة، عندما هو قدّر لهذه الروح أن تعيش مدة محددة، جاء أحدهم وقتل جسد الانسان الذي يحمل تلك الروح ، الروح ستتابع حياتها المقدرة سلفاً. حسناً ، أنا لا أطلب منك أن تؤمن بما أعتقده أبداً، لكنني أقص عليك حوادث عشتها ولم أحكِ لك حكايات سمعتها..... حسناً اسمع هذه أيضاً.... عندما كان الأمين في العاشرة من عمره أصيب بأزمة قلبية !!! تصور !! أزمة قلبية لطفل، المهم هل تستطيع أن تشرح لي كيف هناك أطفالاً أعمارهم صغيرة يتخرجون من الجامعة؟؟؟ هل تستطيع أن تفسر لي هذا الطفل غير العربي الذي رأيناه يقف على المنبر ويخطب بالعربية ويحفظ القرآن وهو لم يتجاوز عامه الثالث ؟؟ أعود لأحدثك عن عملية القلب الجراحية التي خضع لها الأمين في سنته العاشرة، كنت أنتظر خارجاً وقلبي يخفق على وليدي الوحيد، أحسست بارتباك كبير في طاقم المشفى وحول غرفة العمليات بدأت ألاحظ حركات سريعة للأطباء والممرضين، خفت على ولدي، فدعوت الرب : يارب تعلم أنني سميت ابني على اسم نبي الاسلام، ورجوته أن ينقذ ابني....

بعد أيام حدثني ابني عن مشاهدته لنفسه أثناء اجراء العملية، يقول صعدت روحي من جسدي وطارت فوقه في غرفة العمليات وبدأت أنظر إليهم ما يفعلون بي، و رأيت الطبيب كيف كان متوتراً إلى أبعد الحدود، إلى أن دخل محمد نبي الاسلام الذي حكيتِ لي عنه وساعدهم بشيء ما، بعدها بدأتُ شيئاً فشيئاً أعود إلى جسدي. تقول أم الأمين:عندها تذكرت أنني لمحت شخصاً مختلفاً عن بيئتنا يدخل غرفة العلميات.

_ ايه يا أم الأمين ، ذكـّرتـِني بأحداث كنت قد نسيتـُها، لكنها حصلت معي فعلاً قبل سبعة عشر سنة، كان جارنا أبوحسين مشهوراً بالتقوى، ومعروف عنه شدة الحياء، مرض وأصبح بحاجة إلى عملية جراحية لكنه من شدة الحياء لم يشأ أن يذهب إلى المشفى رغم كل الضغوط عليه، الكل يعرف أن العم أبو حسين مريض في بيته، وإذا بنا نفاجئ به يوماً سليماً معافىً، يقول أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأجرى لي العملية، وعندما استيقظت وجدت نفسي معافىً ورأيت آثار العملية على جسدي، وقد قال لي صلى الله عليه وسلم: اقرأ القرآن على المرضى فستساعدهم على الشفاء. في تلك الأثناء كانت طفلتي التي لم يتجاوز عمرها الشهر تقترب من الموت حيث توقف عندها الكبد عن الاستقلاب، وكان والد صديقي طبيب مختص في طب الأطفال من أمريكا قد نصحني بأن لا أتعبها ولا أتعب نفسي فلا يستطيع أحد أن يتدخل في هذا الأمر.... ادعوا لها بالشفاء... وقتها أخذناها إلى جارنا العم أبو حسين وقرأ لها وبعدها عاد الكبد إلى عمله الطبيعي وهي اليوم بصحة ممتازة.

_ أصدّق هذا، وأؤمن أن الرب عندما يهب روحاً إلى مولود جديد لتكمل معه حياتها فإنه بذلك يحقق مشيئته في أنه خلق الإنسان ليعيش ، لا ليـُقتل.... فالقتل أبشع جريمة فعلها البشر حتى لأظن أن الرب قد يسامح على كل أخطائنا، لكنه لا يسامح أحداً يأخذ منه حقه في تحديد نهاية حياة الإنسان.


أمّا صديقي الذي كان مستمعاً طوال الوقت فرائحة الطعام دعته للتحدث:

_هل أصبح الطعام جاهزاً، رائحته أشعرتنا بالجوع......