ليونة الساعات تفضح صلابة الوقت المزعومة..
مَن يجرؤ على تشييد العدم من مادة الوجود؟هذا من قلة الحيلة.فلكل عالَـمٍ أصدافٌ يُـوسِّـدُها بحوره.كابتسامة الحبيبة الخجول،إشارةٌ مُتوارية لا يرتشف أسرارها إلا قلبٌ ظمِئٌ للحب
يدفعه هَوسٌ محمود لسبر أغوار الينابيع.
إن السيريالية هي مذهب إملاءات الحُلم على واقع اليقظة.فلا سبيل لفك الشفرات اللامنطقية بمفاتيح العقل.
هناك رسالة بالتأكيد.إلا أن المعضلة تتبدا لنا حينما نحاول اقتفاء أثر الفنان لنستدل إلى مقاصده
.فهو،بالكاد،يفهم ما أومأ به الحُلم إليه.ولعله جرّب أن يَـحد من مساحة المفاهيم الشاسعة ببعض الأشكال التي ـ وإن لم تسقف السماء ـ فإنها تبعث بسحابةٍ تظلل الأرض/المعنى فتؤطر المقاصد.
"إلحاح الذاكرة" أو "The Persistence of Memory"
اللوحة الأكثر إثارةً للجدل للفنان السيريالي المبهر "سيلفادور دالي"
.نرى فيها مكونات الطبيعة الثلاث:البحر والسماء والأرض.هي،غير مقطوعة الصلة فيما بينها.فالجبل أُمُّـه الأرض،إلا أنه يرنو باتجاه البحر.ثم إنه يُـقبّل السماء.الكائن البحري النافق كان يلهو يومًا في رحم البحر قبل أن يلفظه إلى الأرض ليخمد نبضه على الشاطئ ككلمةٌ أخرِجَت عمدًا من سياقها ففقدت كل مضمون.
الشجرة الكاذبة تقف على منصة خشبية.تريد أن تقنعنا بأنها من القوة بحيث تنفذ جذورها إلى الصلب.أما الساعات اللينة،فهي لُب الحكاية.
رسم "دالي" هذه اللوحة عام 1931م.
كان الانهيار الاقتصادي قد عم أوروبا وأمريكا.هذه الأخيرة التي شهدت إعلان بورصة نيويورك لإفلاسها
عام 1929م.كانت المناوشات بين دول العالم تمهّد لاندلاع الحرب العالمية الثانية.
عمّ هلعٌ صناعي كافة المجتمعات الحديثة.دخل الجميع في سباقٍ محموم
لتطوير التقنيات العسكرية وتقوية الاقتصاد تحسبًا لما هو آت.
كانوا ـ وكنا ـ شعوبًا فانية تُـطاول الخلود بسُـلَّـم الإنتاج.واستمر "الوقت" هاجسًا يسكننا حتى اليوم.
لِـمَ بدت الساعات ذابلةً؟ الوقت نسبي! هذا صحيح.ولكن هناك ما هو أكثر.ليونة الساعات تفضح صلابة الوقت المزعومة.وقت العمل و وقت التصنيع و وقت الحرب و وقت الحب.الوقت مفهوم مِطواع وليس إطارًا زمنيًا جامدًا.لاحظ الساعة الآسفة على جثمان الكائن.إنها أداة الجريمة وكَـفَـنُه الصغير.الإنسان المغرم أبدًا طرده البحر المُحب من أعماق دفئه عقابًا له.وها نحن نراه ميتًا على ضفاف الواقع الذي يزعمون أنه البيئة المُثلى للإنسان.أَخلَـيتَ قلبه من الوَجد وكذبتَ عليه فأخبرته بأن الحياة عملٌ وإنتاج،لا محبة وشغف.
الساعة الثانية تقصم ظهرها على المسرح.
تُواجه الأرض والبحر والسماء والجبل والإنسان وبصيص الضوء،
فاضحةً موتها على كل الأبعاد.لعلها الساعة الميتة الوحيدة التي نراها ونؤمن بها.ورغم أنها تختزل كل دلالات الموت فإننا نتهرب من تفتيت معانيها.
نقول بأنها تعلن عن موت "كل شيء" ونتهرب من سرد "تلك الأشياء".ما كنا لنؤمن بها أولاً لولا أنها في دائرة الضوء حيث لا مناص من إبصارها.
"الاعتراف التام المُختزل بإخلال"،هذا ما أردنا لها أن تكونه.ساعة الجيب المنكفئة على وجهها أثارت قلق النمل.صلابتها وعدم وضوح موتها دفعا بجيش الدبيب للوقوف على حالها.النمل/القادة/الحكومات/المجتمع المادي/المعايير الأخلاقية،لا مصلحة لأيٍ منهم بنجاة أحدٍ من مهلكة الوقت.حتى وإن كان الناجي ساعةً صغيرة.لا يجب أن يفر أحدٌ من هذه المذبحة.الفشل غير مسموحٍ به.أما تلك الساعة على الشجرة الكاذبة ففيها من السخرية الكثير.الأكاذيب نفسها لم تنجو.شجرةٌ مقصولة الرأس بلا ثمارٍ ولا جذور يمكن لها أن تحتمل إشارة الإذابة.
الشجرة التي تُسجي الساعة على غصنها الأوحد
كنادلٍ لا يقوى الخروج عن موجبات عمله فيَجبَن عن إزاحة المنديل من وسط ساعده.
اللوح السميك الذي يبرز من خلف بُعد الشجرة
لا يبدو قاربًا حقيقيًا.إنه لا ينقل الواقع الميت إلى حياة البحر.بل يحمل ميتات البحر الحي إلى الواقع الميت.
ها هو قد انتهى من الإنسان الحي فألقاه على الشاطئ ثم عاد ليجفف نفسه من قطرات الحياة العالقة على سطحه تحت أشعة الشمس بانتظار ضحيةٍ أخرى ينقلها إلى مثواها الأخير،إلى حيث الواقع المُـرّ.
اتمنى أن تنال إعجابكم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)