فى شعره وفى قصيدة معاصرة

أولجا جاريا تشكينا


المستعربة الروسية الشابة أولجا جاريا تشكينا من أصغر المستعربات سنا فعمرها 27 عاما وهى الآن تعد أطروحة الدكتوراه فى الأدب العربى بجامعة موسكو وموضوعها الشاعر القرشى عمر بن أبى ربيعة وهو موضوعها للماچستير أيضا .. ووالدها الدكتور جنادى جاريا تشكين مدير المركز الروسى للثقافة والعلوم بالإسكندرية وهو مستعرب كبير صدرت له كتب باللغة العربية عن الهيئة العامة للكتاب بمصر .. وكان مترجما فى مصر الحبيبة فى سنوات حرب الاستزاف العظيمة .. ورغم أن والديها يعيشان منذ سنوات هنا فى الاسكندرية فإنها بسبب دراستها تعيش فى موسكو الآن ..


درست اللغة العربية وآدابها فى جامعة موسكو، وتعلقت بالشعر العربى خاصة الشاعر القرشى عمر بن أبى ربيعة الذى عاش فى القرن السابع الميلادى .. وسجلت عنه رسالتى ماجستير ودكتوراه التى أنشغل بها الآن ويسعدنى أن ألقى نظرة على هذا الشاعر المتفرد.

كرس الشاعر عمر بن أبى ربيعة شعره كله لموضوع واحد شغله طوال حياته وهو الغزل، وبرع عمر فى تصوير المشاعر والعلاقات الإنسانية من عذاب الفراق وفرحة اللقاء وصور همومه ومزاجه ومعاناته فى مشاهد درامية سيكولوجية مشبعة بالدفء والصدق والتلقائية، متمردا على قيم المجتمع الإسلامى فى العصر الأموى، وبلغ فى غزله مستوى رفيعا حتى قال نقاد عصره : (كانت العرب تقر لقبيلة قريش بالتقدم فى كل شئ عليها إلا فى الشعر حتى كان عمر بن أبى ربيعه، فأقر لها الشعراء بالشعر) وقال معاصره الشاعر الفرز دق عن غزله : (هذا الذى كانت الشعراء تطلبه فأخطأته، ووقع هذا عليه).

وقال له الأمير سليمان بن عبد الملك : (ما يمنعك من مدحنا؟ قال : إنى لا أمدح الرجال، إنما أمدح النساء) وهو صاحب البيت الشعرى المشهور.

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى

فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا

وقد تحدى عمر قيم المجتمع فى المدينة المنورة وشبب بكل الفتيات اللاتى دخلن قلبه حتى لو قابلهن فى الكعبة المشرفة بمكة المكرمة.

قال فى زينب بنت موسى الجمحى حين قابلها فى مناسك الحج :

يا من لقلب ميتم كلف

يهذى بخود مليحة النظر

مازال طرفى يحار إن برزت

حتى رأيت النقصان فى بصرى

أبصرتها ليلة ونسوتها

يمشين بين المقام والحجر

قد فزن بالحسن والجمال معاً

وفزن رسلا بالدلان

قالت لترب لها تحدثها

لنفسدن الطواف فى عمر

قالت : تصدى له ليعرفنا

ثم اغمزيه يا أخت فى خفر

قالت لها : قد غمزته فأبى

ثم اسبطرت تسعى على أثرى

ثم يعلق عمر :

من يسق بعد الكرى بريقتها

يسق بكأس ذى لذة خصر

ويؤكد عمر فى هذه القصيدة أن الفتاة وجارياتها غازلنه لكنه لم يستجب مع اعترافه بجمالهن وانجاذبه إلى زينب ....

وتغزل عمر فى هند بحوار جميل :

ليت هندا أنجزتنا ما تعد

وشفت أنفسنا مما نجد

واستبدت مرة واحدة

إنما العاجز من لا يستبد

.....

قلت من أنت، فقالت : أنا من

شفه الوجد وأبلاه الكمد

نحن أهل الخيف من أهل منى

مالمقتول قتلناه قود

قلت أهلا أنتم بغيتنا

فتسمين فقالت : أنا هند

إنما أهلك جيران لنا

أنما نحن وهم شىء أحد

حدثونا أنها لى نفثت

عقدا، يا حبذا تلك العقد

كلما قلت : متى ميعادنا

ضحكت هند وقالت بعد غد

وهناك يصور الشاعر عمر جرأة الفتاة العربية وعفتها فى وقت واحد، فرغم أنها أعلنت إعجابها واعترفت بجاذبيتها (أنا من شفه الوجد وأبلاه الكمد، وما لمقتول قتلناه قود) ورغم انسحاره بها فإنها تتهرب من موعد منفرد مع الشاعر (كلما قلت : متى ميعادنا، ضحكت هند وقالت بعد غد)

وقد قال عمر لأصحابه نثرا : (كنت أعشق ولا أعشق، وما قلت لامرأة قط شيئا لم تقله لى، وما كشفت ثوبا عن حرام قط). وقال لأخيه الحارث والى البصرة فى عهد عبد الله بن الزبير وهو على فراش الموت فى الثمانين من عمره: (أحسبك تجزع لما تظنه بى، والله ماركبت فاحشة قط)

ورد عليه أخوه : (ماكنت أشفق عليك إلا من ذلك، وقد سليت عنى)

أكد عمر هذا فى بيت شعرى :

إنى امرؤ مغرم بالحسن أتبعه

لاحظ لى فيه إلا لذة النظر

ومما قال عمر فى تعشق النساء له :

بينما ينعتننى أبصرننى

دون قيد الميل يعدو بى الأغر

قالت الكبرى أتعرفن الفتى

قالت الوسطى نعم، هذا عمر

قالت الصغرى وقد تيمتها

قد عرفناه، وهل يخفى القمر

ووصف مشاعر الحب النبيلة بقوله :

أحب لحبك من لم يكن

صفيا لنفسى ولا صاحبا

وأبذل مالى لمرضاتكم

وأعتب من جاءكم عاتبا

وأرغب فى ود من لم أكن

إلى وده قبلكم راغبا

ولو سلك الناس فى جانب

من الأرض واعتزلت جانبا

ليممت طيتها، أننى

أرى قربها العجب العاجبا

وقال فى عائشة حبيبته المسافرة :

إن من تهوى مع الفجر ظعن

للهوى والقلب متباع الوطن

بانت الشمس وكانت كلما

ذكرت للقلب عاوده الحزن

يا أبا الحارث قلبى حائر

فأتمر أمر رشيد مؤتمن

نظرت عينى إليها نظرة

تركت قلبى لديها مرتهن

ليس حب فوق ما أحببتها

غير أن أقتل نفسى أو أجن

ومازالت قصائد عمر بن أبى ربيعة وحياته نفسها تؤثر فى الشعراء المعاصرين والذين يعتبرونه مدافعا عن حب الحياة ويعجبون بنظرته الدنيوية للواقع، فيكتب الشاعر الشاب «تامر فتحى» قصيدة من الشعر التفعيلى بعنوان (فى الحبس الانفرادى مع عمر بن أبى ربيعة) يصور صراعا متخيلا بين الشاعر الجديد المتمرد والشاعر القديم الرائد فى التمرد. يقول الشاعر «تامر فتحى» :

«فى البدء تشاجرنا، حتى كاد يموت

لم يتركنى حتى أودعنى هذا الجرح»

(لكنى سمعته يغنى أغنية فيروز «ياطير» ولذلك صرنا أصدقاء).

وهنا يعبر الشاعر عن الصداقة التى ربطت بينهما بسبب الحب من خلال أغنية المطربة اللبنانية الشهيرة فيروز ..... ثم يصور لنا الشاعر المعاصر شخصية الشاعر القديم :

(كان يوزع علبة دخانه للعسكر والمسجونين

يدخلهم ويصلح فيهم كل عيوب مضخات الدم

ويغنى معهم، ويقص عليهم

خبر امرأة نام قليلا فى غرفتها

وبعد تسع شهور أنجبت

قصيدة ...

فيضحون)