تدمـر .. ابنة التاريخ المدللة" .. من الواجب الاعتراف بأن العالم القديم لم يترك لا في اليونان ولا في إيطاليا شيئاً يمكن مقارنته بأطلال تدمر الرائعة .. "ناجي درويش ـ كاتب سوري
الرحالة الإيطالي فولني Volney 1785
هنـا تدمـر ..
نوارة الشرق المقدس .. وابنة المجد الإنساني الرفيع ..
هنـا تدمـر ..
حيث تستطيع أن تعثر على عيونالعالم المبهورة كلها بأوابدٌ بنتها أيادٍ سحرية ، ليرسم كل حجر منها حرفاً من حكاية تتحدى ذاكرة الزمن وفسيفساء لمعجزة من فنون الشرق والغرب فهل تتحقق المعجزات دوماً حينما تتفق الحضارات ؟..
هنـا تدمـر ..
الملكة الهاجعة على سريرها الذهبي .. المتطلعة كل يوم عبر شقوق ذاكرتها العميقة الأغوار إلى حيث يلتمع ضوء ضيوفها سادة العطر والجمال .. تشتاقهم كشوقها إلى حبات تمر بياراتها .. تحاول متعمدة أن تقطع في النهايات فهي تريد أن يبقى الزمن مفتوحاً وأن يكون السرد شاهداً على ماضٍ يعود كل يوم ..
ومع كل عناق ..
ـ عفواً ـ مع كل صباح .. تشرق تدمر قبل الضوء وتذهب مبكرة لتوقظ التاريخ .. تصعد أعمدة الشارع المستقيم إلى القلعة المتحلقة فوق عنقها كأيقونة كي لا تصيبها العين .. تنفض عن أوابدها غبار الذهب ليفترشه سندس الطرقات .. وتضحك الآغورا رافعةً أذرعها تومئ وترشد إلى المكان ..
ومع كل نهـار ..
تطل الشمس التدمرية مداعبةً الرمال والحجارة لترمم الروح التي عركتها الأيام بجهادها وأفراحها ونواحها وآمالها .. ويشتعل الهواء ليستنشق القادمون من كل فج عميق ( المرحبا ) المنداة برائحة الأرض العابقة بإعجاز الإنسان وحلم التاريخ .. وتكبر تدمر لتصير بحجم أم تفرد صدرها ليحتضن ضيوفاً ذواقين قادمين من كل فج عميق يأتون مع كل اخضرار كل حلم ومع رحلة كل نسيم لا يعرفه إلا فضاء تدمر ..
ومع كل مسـاء ..
تمرّ الألوان كلوحة إلهية مرسومة بحجارة من ذهب وقلب من مرمر وعباءة من شمس .. ويأتي القمر كمهرجان يجوب المدينة بلحن ضوضائه الجميل محيياً صفاء مجد المدينة .. لينداح التاريخ كسعف نخلة وينهض من غفوة النهار إلى يقظة الليل الحالم .. وليفتح مقلتيه بانبهار ..
ويأتي كل ليـل ..
لتتنهد الأم تدمر وتفتح حضنها الوثير ولتعيد غناء الحكاية : " ها نحن نلتقي عند الفجر ونبتعد عند المساء .. وفي كلّ مرّة يأتي الفجر من جديد ؟ " .. ولينام الضيوف كما لم يناموا منذ دهور ..
آسَـفُ ..
إن كنت قد أترفت في الحكاية ـ وأعتقدني تقشفت ـ ، ولكناسمحوا لي أن أُعيد السؤال المذروف على صفحات التاريخ :
هل يمكن لتدمر إلا أن تكون بوابة مشرعة للتلاقي الإنسانيالرفيع ؟..
وهل تملك هذه البوابة إلا أن تكون محطة تاريخ وبوابة حاضر وجسراً لمستقبل وحلم ؟..
دلوني علىمحطة كهذه .. يبدأ فيها مسلسل التاريخ .. ولا ينتهي ..! ودلوني على قلب يستطيع ألا يكون محطة للدم !..
أجل .. في هكذا ميناء فقط يصبح الرصيف حلماً حين يستقبل سفناً تفترش نور الشمس دافعةً أمامها هواءً مميزاً في نسيماته دفء اللقاء وبرد الوداع .. حاملةً القادمين من كل فجّ عميق والراحلين فوق سكة من سحر .. لتثبت تدمر ولتثبت المحطة .
إلىكل قادم وكل مغادر ..
حاولت أن ألخص لكم حكاية يوم تدمري ..
فماذا لو قرَّرت تدمر كتابة مذكراتها ؟..
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)