معشر العشاق


قال الأصمعي : بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت

أيا معشر العشاق بالله خبروا ..........إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع



فكتبت تحته

يداري هواه ثم يكتم سره .........ويخشع في كل الأمور ويخضع



ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوباً تحته

فكيف يداري والهوى قاتل الفتى ........وفي كل يوم قلبه يتقطع



فكتبت تحته

إذا لم يجد صبراً لكتمان سره ........فليس له شيء سوى الموت أنفع


ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شاباً ملقى تحت ذلك الحجر ميتاً وقد كتب قبل موته

سمعنا وأطعنا ثم متنا فبلغوا......سلامي على من كان للوصل يمنع



الأصمعي في بلدة خراب


حكى الأصمعي قال : خرجت في طلب الأعاجيب من الأحاديث ، فلاحت لي بلدة بيضاء كأنها الغمامة، فدخلتها فإذا هي خراب وليس فيها ديار ولا أنيس ، فبينما أنا أدور في نواحيها إذ سمعت كلاماً فطار قلبي، فأنصتّ ، فإذا به كلام موحش ، فسللت سيفي ودخلت ذلك المكان، فإذا أنا برجل جالس، وبين يديه صنم وفي يده قضيب
وهو يبكي ويقول

أما ومسيـح الله لو كنـت عاشقـاً

لمت كما ماتت ، وقد ضمني لحدي

وكم أتسلـى بالحديـث وبالمنـى

وبالعبرات السائـلات على خـدي

وإني وإن لم يأتني الموت سرعـةً

لأمسي على جهد وأضحي على جهد



فقال الأصمعي : فلما سمعت ذلك منه هجمت عليه، فلم يشعر بي إلا أن قلت له: السلام عليك
فرفع رأسه وقال: وعليك السلام، من أين أنت ومن جاء بك إلى هذا المكان ؟
فقلت: الله جاء بي
فقال: صدقت وهو الذي أفردني في هذا المكان
فقلت له: ما بالك تشير إلى هذا الصنم الذي بين يديك
فقال لي: إن حديثي عجيب وأمري غريب
فقلت له: حدثني به ولا تخف منه شيئاً
فقال لي: اعلم أننا كنا قوماً وكنا على دين المسيح وكان دعاؤنا مستجاباً، وكانت هذه الصنمة ابنة عمي وكنت أنا وإياها . فلما كبرت حجبها عمي عني ، فكنت أحبها سراً
فبينما أنا ذات ليلة وأنا عندها إذ سمعت عمي يدق الباب ، فأدخلتني سرداباً وقامت هي ففتحت الباب ودخل عمي فقال لها: أين عبد المسيح ؟
فقالت: إني لم أره
فقال لها: إني سمعت كلامه عندك
فقالت: لم تسمع شيئاً وإنما خيل لك
فقال لها: والله إن لم تصدقيني ، وإلا دعوت عليك إن كنت كاذبة فيمسخك الله حجراً
فقالت له: إذا كنت كاذبةً
فرفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم يا رب الأولين والآخرين إن كنت تعلم أن ابنتي هذه كاذبة في قولها فامسخها حجراً ، فمسخها الله حجراً ، ولي أربعون سنة في هذا المكان ، وأنا أتقوت من نبت الأرض وأشرب من هذه الأنهار وأتسلى بالنظر إلى هذه الصنمة إلى أن يحكم الله بالموت
ثم بكى وأنشد يقول

وحق الذي أبكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي خلق الخلقـا

لئن قلت إن الحب قد يقتل الفتى

وإن الفتى بعد التفرق لا يبقـى

لقد قلت حقاً واسأل العبرة التـي

تسيل وسيل الدمع مني لا يرقـا



فقال الأصمعي: ثم قام ذلك الشاب وتوارى عني بجدار من تلك الجدر ، ونزع المسوح التي كانت عليه ولم يبق عليه إلا ما يواري سوأته فتأملته ، فإذا عيناه تدور في أم رأسه
فقلت في نفسي: هذا أراد أن يطلعني على نحول جسده ثم أقبل علي ، وهو عريان وقال لي : يا فتى إنني قائل ثلاث أبيات ، وكان مني ما كان ، فإذا أنا مت فكفني أنا وإياها في هذه الجبة وادفنا في هذا الجون وضمنا بالتراب واكتب على قبرنا هذه الأبيات

من لم يكن يحسب أن الهوى

يقتل ، فلينظر إلى مضجعي

لم يبق لي حـولٌ ولا قـوةٌ

إلا خيال الشمس في موضعي

أشكو إلى الرحمن جهد البلا

إشارة بالطـرف والإصبـع



فقال الأصمعي: هذا وأنا أنظر إليه وأسمع شعره وأتعجب منه ومن أمر الصنمة
وإذا به وقع على الأرض مستلقياً على قفاه وشهق شهقةً فارقت روحه جسده
فقال الأصمعي: فكفنتهما ودفنتهما في ذلك الجون، وكتبت على قبرهما تلك الأبيات، وتركتهما وانصرفت وأنا متعجب غاية العجب



العاشق ذو المروءة



حكي عن الأصمعي أنه قال: دخلت البصرة أريد بادية بني سعد وكان على البصرة يومئذ خالد بن عبد الله القسري، فدخلت عليه يوماً فوجد قوماً متعلقين بشاب ذي جمال وكمال وأدب ظاهر، بوجه زاهر حسن الصورة طيب الرائحة جميل البزة ، عليه سكينة ووقار ، فقدموه إلى خالد فسألهم عن قصته
فقالوا: هذا لص أصبناه البارحة في منازلنا . فنظر إليه فأعجبه حسن هيئته ونظافته
فقال : خلوا عنه . ثم أدناه منه وسأله عن قصته
فقال : إن القول ما قالوه والأمر على ما ذكروه
فقال له : ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة ؟
قال : حملني الشره في الدنيا . وبذا قضى الله سبحانه وتعالى
فقال له خالد : ثكلتك أمك ، أما كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك وحسن أدبك زاجر لك عن السرقة
قال : دع عنك هذا أيها الأمير ، وانفذ ما أمرك الله تعالى به . فذلك بما كسبت يداي . وما الله بظلام للعبيد فسكت خالد ساعة يفكر في أمر الفتى ثم أدناه منه وقال له : إن اعترافك على رؤوس الأشهاد قد رابني وأنا ما أظنك سارقاً ، وإن لك قصة غير السرقة فأخبرني بها
فقال: أيها الأمير، لا يقع في نفسك سوى ما اعترفت به عندك، وليس لي قصة أشرحها لك إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت منها مالاً فأدركوني وأخذوه مني وحملوني إليك
فأمر خالد بحبسه وأمر منادياً ينادي في البصرة : ألا من أحب أن ينظر إلى عقوبة فلان اللص وقطع يده فليحضر من الغد، فلما استقر الفتى في الحبس ووضع في رجليه الحديد تنفس الصعداء
ثم أنشد يقول

هددني خالد بقطـع يـدي

إن لم أبح عنـده بقصتهـا

فقلت : هيهات أن أبوح بما

تضمن القلـب من محبتهـا

قطع يدي بالذي اعترفت به

أهون للقلب من فضيحتهـا



فسمعه الموكلون به فأتوا خالداً وأخبروه بذلك ، فلما جن الليل أمر بإحضاره عنده ، فلما حضر استنطقه فرآه أديباً عاقلاً لبيباً ظريفاً فأعجب به فأمر له بطعام فأكلا وتحادثا ساعة
ثم قال له خالد : قد علمت أن لك قصة غير السرقة، فإذا كان غداً وحضر الناس والقضاة وسألتك عن السرقة فأنكرها واذكر فيها شبهاتٍ تدرأ عنك القطع ثم أمر به إلى السجن ، فلما أصبح الناس لم يبق بالبصرة رجل ولا امرأة إلا حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى ، وركب خالد ومعه وجوه أهل البصرة وغيرهم ، ثم دعا بالقضاة وأمر بإحضار الفتى، فأقبل يحجل في قيوده، ولم يبق أحد من النساء إلا بكى عليه وارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، فأمر بتسكيت الناس
ثم قال له خالد : إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم وسرقت مالهم فما تقول ؟
قال : صدقوا أيها الأمير ، دخلت دارهم وسرقت مالهم
قال خالد : لعلك سرقت دون النصاب
قال : بل سرقت نصاباً كاملاً
قال خالد : فلعلك سرقته من غير حرز مثله ؟
قال : بل من حرز مثله
قال خالد : فلعلك شريك القوم في شيء منه ؟
قال: بل هو جميعه لهم لا حق لي فيه
فغضب خالد وقام إليه بنفسه وضربه على وجهه بالسوط
وقال متمثلاً بهذا البيت

يريد المرء أن يعطى مناه

ويأبـى الله إلا مـا أرادا



ثم دعا بالجلاد ليقطع يده، فحضر وأخرج السكين، ومد يده ووضع عليها السكين فبرزت جارية من صف النساء عليها آثار وسخ، فصرخت ورمت بنفسها عليه، ثم أسفرت عن وجه كأنه البدر وارتفع للناس ضجة عظيمة كاد أن تقع منه فتنة
ثم نادت بأعلى صوتها : إليه رقعة ففضها خالد فإذا هي مكتوب فيها

أخـالـد هـذا مستهـام متيــمٌ

رمته لحاظي من قسـي الحمالـق

فأصماه سهم اللحـظ منـي فقلبـه

حليف الجوى من دائه غير فائـق

أقـر بمـا لـم يقتـرفـه لأنـه

رأى ذاك خيراً من هتيكة عاشـق

فهلا على الصـب الكئيـب لأنـه

كريم السجايا في الهوى غير سارق



فلما قرأ الأبيات تنحى وانعزل عن الناس وأحضر المرأة، ثم سألها عن القصة
فأخبرته أن هذا الفتى عاشق لها وهي له كذلك، وأنه أراد زيارتها وأن يعلمها بمكانه، فرمى بحجر إلى الدار، فسمع أبوها واخوتها صوت الحجر، فصعدوا إليه، فلما أحس بهم جمع قماش البيت كله وجعله صرة، فأخذوه وقالوا: هذا سارق وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة وأصر على ذلك حتى لا يفضحني بي اخوتي، وهان عليه قطع يده لكي يستر علي ولا يفضحني كل ذلك لغزارة مروءته وكرم نفسه
فقال خالد: إنه خليق بذلك، ثم استدعى الفتى إليه وقبل ما بين عينيه وأمر بإحضار أبي الجارية وقال له: يا شيخ إنا كنا عزمنا على إنفاذ الحكم في هذا الفتى بالقطع، وإن الله عصمه من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يده وحفظه لعرضك وعرض ابنتك وصيانته لكما من العار، وقد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم، وأنا أسألك أن تأذن لي في تزويجها منه
فقال الشيخ: قد أذنت أيها الأمير بذلك