مذكرات مغترب (11) لقاء في فيينا....بقلم : محمد عبد الوهاب جسري

"الشمعة التي تنشر ضياءها هي فقط تلك الشمعة التي تحترق"



أسعدتني الأيام القليلة الماضية بالتعرف من جديد إلى صديق قديم فرقتنا الأيام و المسافات و لكني علمت يقيناً "أثناء هذه الزيارة" أن الذي يجمعنا على الرغم من فرقة عشرين عاماً و بضعة آلاف الكيلومترات لم يزل أكثر بكثير مما يمكن أن يفرق الأصدقاء.



فيلسوف عربي، هكذا أعتبره أنا على الأقل، كل مسكنه عبارة عن مكتبة فيها آلاف الكتب يقضي معظم أوقاته في قراءتها و استخلاص العبر منها بما يفيده "ومن حوله" في الحياة الدنيا و الآخرة، ناهيك عن آلاف أخرى قرأها في المكتبات العامة، وحتى لا يصفني أحد بالتحيز له فإنني أحب أن أذكر لكم جملة سمعتها منه عن تربية الأبناء يقول : عندما تصل مع أولادك إلى درجة تكون فيها عقوبة أحدهم عن ذنب ارتكبه هي حرمانه من المطالعة قبل النوم، وعندما تجد أنه فعلاً يخشى هذه العقوبة، عندها تستطيع أن توقن بأنك وضعته على الطريق الصحيح....




في أجواء الاحتفالات بعيد الميلاد ورأس السنة، في مركز مدينة فيينا، وفي أحيائها القديمة، كنا نتجول في حاراتها التي ازدانت بالأسواق الشعبية "المؤقتة" التي تقام خصيصاً لهذه المناسبة غير آبهة بتساقط الثلج وبرودة الطقس....

سألته:

_ أنت رجل وصلت إلى هذه الدرجة من العلم والمعرفة وتملـّكت وتفهمت الكثير من عصارة التجربة البشرية، لماذا لا تكتب سيدي ؟؟



_ ماذا أكتب و لمن ؟ أأكتب لشعوب لا تقرأ ؟؟ و إذا قرأت لا تفهم كثيرا مما تقرأ و إذا فهمت فهي لا تستفيد منه..!!



_ لا يا سيدي ، الناس بدأت تقرأ ، وأصبحت لدينا فرصة جيدة "والحمد لله" لتلقي التعليقات على المواضيع ومناقشتها من خلال المواقع الالكترونية....



_ سأفترض أن بعض الناس يقرؤون، هل هناك من استجابة ؟؟ هل هناك من تغيير ؟ هل رأيت أو سمعت أحدهم قال لك: أنا تأثرت بما قرأتُ لدرجة قررتُ فيها أن أحول تأثري هذا من معلومة سمعتها إلى فعل أقوم به ؟؟ أين التطبيق ؟؟



في المساء، من مكتبته، تناول الرجل كتاباً بعنوان "العرب ظاهرة صوتية" للمؤلف عبد الله القصيمي، حدثني قليلاً عن الكتاب، وكما نقول" المكتوب مبين من عنوانه" ثم انتقل ليحدثني عن المؤلف ليقول : لقد انتقل المؤلف من حالة التدين المفرط إلى الإلحاد ومات ملحداً " يعني بالعربي العرب جننوه يا لطيف".

قلت:

_ ياسيدي الأمور ليست ضبابية لهذه الدرجة وسأعطيك مثالاً، منذ بضعة أيام نشر لي موقع عكس السير الجزء التاسع من مذكرات مغترب وكان عبارة عن قصة قصيرة بعنوان " بس دقيقة" حدثت معي فعلاً أحببت أن أكتبها وأنشرها علّ أحد يستفيد منها. فوجئت بأن القصة نُشـِرت في معظم المنتديات العربية إن لم نقل جميعها، وصارت تُتداول من خلال "الايميل" وكأن كل من قرأها وجد فيها عبرة نحتاجها جميعاً.

_ مثالك هذا هو تماماً ما يؤكد وجهة نظري، هل هناك من انتقلت الفائدة التي حصّلها من مرحلة الكلام إلى مرحلة التطبيق؟؟ أنا أشك في ذلك.... اسمع ما قرأته اليوم للكاتب علي سعيد الموسى في "الوطن اون لاين":

ما بين ترتيب بلد مثل السويد وبين موقعنا في قائمة – الفساد – الدورية تكمن مسافة التربية التي تتلقاها الشعوب المختلفة وتؤثر في تصديها للظواهر والممارسات السيئة والخاطئة. تتصدر السويد قائمة – النزاهة والشفافية – بينما سأحتفظ بترتيبنا لأنه لا يصح أن يصبح وثيقة في مقال مكتوب. ولكن في المقابل كيف وصل المجتمع السويدي إلى صدارة التصنيف العالمي وكيف تربعنا بامتياز على مكان قصي في الصفحة الثالثة من أسماء المجتمعات العولمية، رغم أن – الأدبيات – التي يتلقاها الشعبان المتناظران (هم ونحن) نظرياً يجب أن تؤدي إلى النقيض: لا يستمع المجتمع السويدي إلى مئة ألف خطبة جمعة في الأسبوع، وكلها تحث على مخافة الله وتقواه، مثلما لا يوجد في السويد نصف مليون مسجد للصلاة التي تجب أن تنهى عن الفحشاء والمنكر. لا توجد في السويد وزارات للأوقاف ولا للشؤون الدينية وفي سجلاتها ثلاثون ألف داعية يقيمون في العام الواحد مليوني منشط دعوي، هدفها حض المجتمع على الصلاح والنزاهة. لا يوجد في السويد مخيم أو معسكر توعوي دعوي مثلما لا يوجد فيها عشر كليات للشريعة تضم الآلاف من الدعاة ومن طلبة العلم الذين يقرؤون على هذا المجتمع عقاب الآخرة ويحذرونه ليل نهار من أكل المال الحرام ومن مغبة هضم حقوق الخلق بالباطل. لا يوجد في فضاء السويد 47 قناة فضائية دينية تبث ليل نهار تعاليم هذا الدين العظيم عن تحريم الربا حتى (وإن تكن حبة من خردل). لا يدرس الطالب السويدي عشرين حصة في الأسبوع من كتاب الله وسنة نبيه التي لم تترك فضيلة واحدة أو سيئة من دبيب النمل إلا ووضعت لها منهاجاً في الترغيب والترهيب. لا يقرأ المجتمع السويدي هذا القرآن العظيم الذي لو أنزل على جبل لتشقق من خشية الله فيما نحن نقرؤه تلاوة وتفسيراً وتجويداً بهذه الكثافة ونحمله أمانة فلم نتشقق، وهذا من طلب المستحيل، ولكن لم نرتفع في ترتيب الفساد سطراً واحداً من الصفحة الثالثة حيث موقعنا في ترتيب المجتمعات والأمم. سؤالي: أنا لا أسأل عن السويدي لو أنه أيضاً استمع إلى كل ما نستمع إليه وأين سيكون، ولكن سؤالي أين سنذهب لو أننا، مع وضعنا المخيف، لم نستمع أيضاً إلى كل هذه التعليمات السماوية الخالدة؟ ( انتهت المقالة).



وتابع يقول:



نحن يا سيدي ظاهرة صوتية تخرج من أفواهنا، من أقلامنا إن شئت، ونحن في نفس الوقت جدران صماء كتيمة عازلة، إن سمحتْ للفكرة أن تصل إلى عقولنا فإنها لا تسمح لها أبداً أن تصل قراراتنا...بالتالي إلى أفعالنا لتنال من استقرارنا و جمودنا. لقد نبهنا رسولنا الأعظم عليه الصلاة و السلام إلى أنه من علامات الساعة أن يفشو القلم.



عندما يستمع الناس إلى موعظة ما، يعتقد كل منا أن الكلام موجه للآخرين، فكل منا يشعر بكامل الرضا عن نفسه، فهو ليس المقصود إنما الآخر، وهو ليس المقصر إنما الآخر.



نحن الآن في حالة أصبحت فيها الكلمة لا تعطي أثراً فينا، منذ أكثر من مئة عام والمفكرون يكتبون عن ضرورة نهضتنا، يحللون أسباب تدهورنا، يجتهدون و يضعون الحلول، حتى أنني بدأت ألاحظ أن عناوين الكتب صارت تتكرر، لكن ماهي النتائج ؟؟ مزيد من التدهور...



لماذا نحن لا نتمكن من القضاء على آفة الفقر مثلاً، رغم أن امكانياتنا المادية تسمح بذلك؟ وشرائعنا تحث على ذلك.... لماذا يفضل الغني توزيع زكاته أو صدقته على أعداد كبيرة من الناس فيقدم لهم وجبة طعام، ولا يقوم بدل ذلك من إعطاء مبالغ كبيرة على شكل مشاريع استثمارية لأعداد قليلة جداً لينتشلهم من حالة الفقر فيأتي العام القادم ليقوموا هم بنفس الدور ؟؟؟

لماذا نحن بحاجة إلى صدور قوانين تغّرم من يرمي نفاياته في الطرقات، في الوقت الذي يجب أن يكون مبدأ تربيتنا لايسمح بهذا الفعل ؟؟؟



نحن يا سيدي بحاجة إلى ثورة ثقافية فكرية تربوية، لأننا لازلنا نؤمن بأن العنف سيد الأحكام "وهو عنوان لكتاب أيضاً" ونبرر مبدأ سلطة الأقوى....فلا نقبل أي تغيير في أسلوب حياتنا إلا عندما يجب أن نكون مرغمين على ذلك.



سألتني لماذا لا أكتب، وأجيبك : أنا أؤمن تماماً ببطلان نظرية الاصلاح الفكري عندما تتعامل مع عقول صماء...



أجبته : إنني أؤمن يا صديقي بأن الشمعة التي تضيء هي فقط تلك الشمعة التي تحترق، أما تلك التي توضع للزينة أو لازالت مخبأة في علبتها فقيمتها لا تتجاوز ذلك المبلغ الذي دُفع لأجل شرائها.



إنني يا صديقي أدعوك "راجياً" أن تُخرج شمعتك من مخبأها فأنت تمتلك مخزوناً ثقافياً عظيماً ومعالجة منطقية، آن الأوان لنقرأ أفكارك ونتدارسها.



ختاماً "ولأننا جميعاً نتأثر آنياً بما نقرأ" أرجو من الأخوات والأخوة ممن تأثر بفكرة قرأها هنا أو هناك وحوَّل هذا التأثر إلى منهج عملي استطاع من خلاله أن يطور نفسه، أرجو أن يساهم بذكرها من أجل أن تعم الفائدة.