هدوء يلف المكان .. فى ذلك اليوم الشتوى البارد.. يكاد النهار يلفظ انفاسه الأخيرة تاركاً لليل أستاره يزحف فيها ببطء وينشر أجنحته، أسير بجدة وحماس.. لا يقاطعنى غيرى فى شارع يبدو أنه خالِ من البشر.. انظر لأسفل كما هى عادتى حين أسير وأنا أفكر... أرفع رأسى قليلاً واتلفت حولى ، اتطلع الى السماء الرمادية البعيدة وسحاباتها الداكنة... اتأمل الشوارع الخالية بطول المدينة وعرضها، أشجار سقطت عنها أوراقها تماما، بيوت ومنازل قصيرة متلاصقة، أنيقة، تحفها حدائق صغيرة، نوافذ البيوت وستائرها الرقيقة وأحواض الزهور المتناثرة أمامها، كل شىء نظيف ومرتب، شوارع غسلها المطر وهواء بارد يلفح وجهى فأغطيه بشال ألفه حول رقبتى.. انتبه للفكرة، لم أعتد على ارتداء الشال من قبل.. عادة جديدة تنضم الى عادات أخرى وجدت طريقها الىّ فى هذا البلد الجديد حتى ألفتها فلم أعد ألمح فيها دهشةً أو استغراباً...
راعتنى الفكرة الجديدة، توقفت.. عدت أنظرحولى من جديد بعيون أخرى، عيون من يرى المكان لأول مرة.. أتأمل المنازل المتراصة والطريق الخالى الطويل... شبه الظلام والهدوء والصمت.. يتسلل بداخلى احساس الغربة لثوان، يسرى بداخلى كالرعشة من أعلى رأسى حتى قدمىّ، كيف اعتدت هذا المنظر وتلك الحياة؟ كيف أصبحت أسير فى هذه الطرقات كأنما هى قدر محفوظ، فلا يختلط فيها علىّ الأمر ولا تعد تثير فىّ الدهشة أو التأمل ؟
يقتحمنى السؤال.. لماذا أنا هنا؟ وكيف أنا هنا؟
تلك المدينة التى تشى شوارعها بالحزن وتحرض جدرانها على البكاء وتغرى أرصفتها الباردة بالعزلة.. تتكاتف فيها كل هذه العوامل لانتاج الحنين.. حنين الى وطن لا يفهمنا أو لا نفهمه.. هل تحتاج تلك المدينة لشهور قليلة فقط لتصبح وطناً؟
هل تفهم حينها جراحنا وتستطيع أن تتسلل الى مناطق البرودة فى داخلنا فتدفئها؟
فى مدينة كهذه لا سبيل لالتئام الجروح، كل ما فيها يبعث على التفكير ويرشى هدوءها وتحرض السكينة فيها على الذكرى.. تنهمر علىّ كما تنهمر قطرات المطر على البيوت والشوارع والأشجار فتغسلها، فتمتزج بداخلى ذكريات عن وطن بكر وحب أول .. فى مدينة كهذه تسع الذكريات باتساع صمتها وغربتها لا سبيل لأن أنساك، ان حباً طاهراً اذا ما غزا قلباً بكراً يتملّكه، وان قلباً فتياً تفتحت بتلاته على حس كنت أنت فيه المعلم فى كتاب الرجولة والقارئ لأبجديات الذكورة لا يملك أن يتنكر لمبادئه الأولى.. فى مدينة كهذه تحرّض برودتها على تفقد الدفء فى ذكرى من كانوا يبثون تلك الحمى فى قلوبنا فتنضحُ أرواحنا بالوهج
فى مدينة كهذه تعلمت انه من الأفضل أن اسمح من حين لآخر لاحساسٍ بالغربة ان يتملكنى، الا أفقد احساساً بالدهشة من وجودى فى هذا المكان.. أن أتوقف قليلاً وأعود لأتأمل ما حولى واتساءل.. فى مدينة كهذه تختمر فيها الأحزان وتنضج فيها الذكريات.. هل روتنى حقاً أم زادتنى جفافاً !!
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)