اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين





إن قلّت تحولت إلى نقص .. وإن ازدادت أصبحت غروراً

كان يجلس في مقعده هادئاً عندما استدار المدرس إلى ركنه طالباً منه إجابته على أحد الأسئلة.. وقف "مهند" مرتبكاً مضطرباً.. تتلعثم الحروف على شفتيه.. عبث أنامله غير الإرادي بقلمه فضح توتره.. ومحاولاته العديدة للإجابة -التي كان يعرفها جيداً- باءت جميعها بالفشل تاركاً من حوله حيرى في كيفية حصده لأعلى الدرجات.

لم يكن توتر "مهند" هنا وعدم قدرته على الحديث بصوت عالٍ أمام زملائه في قاعة الفصل إلا لانعدام ثقته بنفسه -والتي لطالما حاصرته في مواقف شبيهة- أظهرت جلياً ضعف شخصيته وتوترها.

معضلة ثقة الطفل بنفسه أثارت فضول (فلسطين) ودفعتها للاستعانة بمراسلتها الميدانية أملاً في معرفة أسباب ضعفها وعلاجها أو قوتها وسبيل تقنينها تحت شعار (من أجل إعداد جيل يتمتع بقدرات جيدة تهيئه للقيادة) فكان التقرير التالي عينٌ على المشكلة.. وخطوة في سبيل البراء منها:

هدوء زائد!

(أبو ياسر أبو حطب) لم يخف قلقه حينما عاد بذاكرته إلى ذلك اليوم الذي لبى فيه دعوة مدرس طفله الأصغر ذي الستة أعوام ليطلعه على ارتباك واضطراب شخصية طفله الواضح داخل الفصل، وقال :"طفلي ومنذ صغره عرف بهدوء طبعه وخجله الزائد إذ لم يكن ليلعب مع أقرانه، ولم يفارق والدته أبداً، وإن حدث ذلك يبدأ بالبكاء والصراخ"، متابعاً :"كنا سعداء لأن الله رزقنا ابناً هادئاً لكننا اليوم أدركنا أن خجله وهدوءه أوصلاه إلى عدم ثقته بنفسه، وهذا أثر بشكل جلي على طبيعة تعامله مع الآخر ونظرة الآخر إليه".

وأوضح (أبو حطب) أن طفله لا يكاد يخاطب أحداً من زملائه في المدرسة، الأمر الذي دفع بمدرسه إلى مراسلته وشرح ضرورة التواصل معه أملاً في الوصول إلى حل، مستبعداً –وهو أبٌ لأطفالٍ خمسة- أن يكون لأسلوب تربيته له أي تأثير على ما يعاني منه طفله، مشيراً على عجالة إلى أنه على تواصل دائم مع المدرّسة من أجل متابعة تطور حالة ابنه.

عنيد وخجول

أما (أم أحمد المقيد) فقد بدت أكثر قلقاً على طفلها الذي يرفض الالتحاق برياض الأطفال مما دفعها لأن ترسله بالقوة.. فتفاجأ بشكوى مدرساته المستمرة من اعتداءاته المتكررة على المحيطين به إضافةً إلى رفضه الاشتراك في أي مهارة أو لعبة تنظمها المدرسات.

وأشارت إلى أن الأطفال في ذات فصله كثيراً ما يسخرون منه لعدم مشاركتهم إلقاء النشيد أو الانضمام إليهم في معظم الألعاب الترفيهية المطروحة.. الأمر الذي يدفعه إلى البكاء مؤكدةً أن طفلها لا يميل إلى اللعب كما الآخرين مع من يماثلونه أو يقاربونه العمر.

وأكدت (أم أحمد) على أنها ومدرسات طفلها يعملن على تشجيعه للمشاركة والانطلاق كباقي زملائه، قائلة: "قد تعده إحدى مدرساته بهدية أو لعبة معينة إذا شارك زملاءه في إلقاء نشيدٍ مثلاً، وذلك لإشعاره بأنه كغيره ولا يفرق عنهم بشيء".

من جانبه أكد (أبو نضال الشرفا) المدرس في إحدى مدارس المرحلة الأساسية على وجود عدد ملحوظ من الطلبة فاقدي الثقة بأنفسهم، مشيراً إلى أن هذه الشريحة عادةً ما تميل إلى الانطواء والابتعاد عن المشاركة والخجل الشديد "ذلك -حسبما أرى- يرجع إلى أسلوب المعاملة المتبع داخل الأسرة أو ما تعانيه من مشاكل قد تؤثر بشكل أو بآخر على الطلبة الأطفال".

ماذا نعني بالثقة بالنفس؟

ولأن الثقة بالنفس أحد أهم مظاهر الصحة النفسية للطفل، والتي تجعل منه شخصيةً قوية الإرادة، مستقلة التفكير، حرة الاختيار كان لنا لقاء مطول التقينا بالدكتور داود حلس-الاختصاصي التربوي والمحاضر بالجامعة الإسلامية_ والذي بدأ حديثه بإيضاح مفهوم الثقة بالنفس بقوله :"هي عملية توافق وانسجام وتوازن بين بعدين للشخصية هما رؤية الشخص لنفسه، ورؤية الآخرين له، فإن رأى الشخص نفسه بصورةٍ أكبر مما هي عليه ينبغي أصابه الشعور بالعظمة وما يصاحبه من غرورٍ وتعالٍ.. وكذلك إن رأى الشخص نفسه بصورةٍ أقل من حقيقتها أصابه الشعور بالنقص والدونية وما يصاحبه من قلقٍ وخجل"، مشيراً إلى وجود العديد من المظاهر التي تدل على ثقة الطفل بنفسه أو انعدامها متمثلةً في النشاط الاجتماعي والانفعالي والسلوكي السويّ الذي يبرز بصورة ملحوظة من خلال العلاقات الاجتماعية المتسمة بالمحبة والتعاون وحب المشاركة مع الآخرين.

فلندعم ثقتهم..

وذكر د. حلس بعضاً من مظاهر إحساس الطفل الصغير بالثقة في نفسه كإلمامه بالمهارات الخاصة بنشاط ما دون صعوبة، إضافة إلى علامات الراحة والاطمئنان بعد الانتهاء من هذا النشاط والاستقلال بالشخصية واستقرار الانفعالات فضلاً عن انتظام التصرفات، مرجعاً أسباب شعوره بالنقص وانعدام ثقته بنفسه إلى التربية الخاطئة في المنزل بما تتضمنه من كبت مستمر يتعرض له الطفل إذا أراد إثبات وجوده.

وتابع د. حلس عرضه لذات الأسباب فقال :"منها أيضاً التفريق في المعاملة بين الأبناء خصوصاً حينما يميز الأبوان الطفل المتفوق أو الجميل أو صاحب المواهب عن أخيه الذي يفتقر إلى مثل هذه الصفات مما يخلق لدى الأخير روح الانهزام والشعور بالنقص"، منوهاً إلى مشكلة قد لا يعير لها الرائي أي اهتمام وهي ظلم بعض الآباء لأبنائهم باختيار الاسم.. "قد يكون الاسم قبيحاً أو مستهجناً مما يدفع زملاء الطفل إلى السخرية منه مما يزيد من شعوره بأنه ليس كبقية زملائه بل ينقص عنهم باسمه القبيح".

ولنحذر من آثار نقصها!

وأوضح د.حلس أهم الآثار المترتبة على انعدام ثقة الطفل بنفسه وأهمها شعوره بالقلق والهيبة من الاجتماع بالناس، مضيفاً: "ما يحدث أن الطفل الذي يشعر بالنقص يزداد توتراً كلما اقترب موعد المدرسة الصباحي وذلك لكونه فريسةً للوساوس والمخاوف".

كما اعتبر كون الاكتئاب أحد أهم هذه السلبيات إذ يشعر بالآخرين يشكلون خطراً عليه بسبب مراقبتهم عيباً أو نقصاً يشعر بوجوده فيه –وإن كان مخطئاً-، مشيراً إلى أن الطفل الذي يشعر بالنقص غالباً ما يكون عصبياً وانفعالياً في المواقف وقد يتظاهر بالتعالي والتكبر الغطرسة وقد يسرد قصصاً وهمية عن أعماله وبطولاته أملاً في لفت الأنظار إليه "أحلام اليقظة هي المتنفس للطفل الذي يعاني من هذا الشعور إذ إنها الطريقة السليمة والممكنة بالنسبة له حتى يشبع نقصه الذي يشعر به".

للأسرة الدور الأول!

د.حلس أكد على أهمية أن تربي الأسرة أبناءها على اتخاذ القرار والتعبير عن آرائهم وأفكارهم دون خوفٍ أو قيود، فضلاً عن تشجيعهم على إظهار مشاعرهم الحقيقية دون خوف أو وجل، مضيفاً : "الجو الديمقراطي يعني التوسط ما بين التسيب والكبت، وعلى ضوئها يمكن تقاسم الأدوار في الأسرة والمناقشة قبل اتخاذ أي قرار".

وشدد على أهمية قوة العلاقة التي تجمع الزوجين "من أجل أن ينعم الطفل بالطمأنينة والاستقرار والاتزان العاطفي والإشباع النفسي والهدوء الاجتماعي"، الذي من شأنه أن يساعد الطفل على اتخاذ القرارات الحياتية المختلفة، لافتاً إلى الانتباه من حدوث العكس إذا ساد الجو الأسري المشحون المليء بالنزاع والنفور الدائم بين الوالدين".