غابرييل غارسيا ماركيزرائد الواقعية السحرية
غابرييل خوسيه غارسيا ماركيز (ولد في 6 مارس 1927) روائي وصحفي وناشر وناشط سياسي كولمبي. ولد في مدينة أراكاتاكا في مديرية ماجدالينا وعاش معظم حياته في المكسيك وأوروبا ويقضي حالياً معظم وقته في مكسيكو سيتي. نال جائزة نوبل للأدب عام 1982 م وذلك تقديرا للقصص القصيرة والرويات التي كتبها.
بدأ ماركيز ككاتب في صحيفة إلإسبكتادور الكولومبية اليومية (El Espectador)، ثمّ عمل بعدها كمراسل أجنبي في كل من روما وباريس وبرشلونة وكراكاس ونيويورك. كان أول عمل له قصة بحار السفينة المحطمة حيث كتبه كحلقات متسلسلة في صحيفة عام 1955 م. كان هذا الكتاب عن قصة حقيقية لسفينة كولومبية غرقت بسبب إفراط في التحميل و الوزن, عملت الحكومة على محاولة درء الحقيقة بإدعاء أنها غرقت في عاصفة. سبب له هذا العمل عدم الشعور بالأمان في كولومبيا-حيث لم يرق للحكومة العسكرية ما نشره ماركيز- مما شجعه على بدء العمل كمراسل أجنبي. نشر هذا العمل في 1970 م واعتبره الكثيرون كرواية.
كثيرا ما يعتبر ماركيز من أشهر كتاب الواقعية العجائبية، والعديد من كتاباته تحوي عناصر شديدة الترابط بذلك الإسلوب، ولكن كتاباته متنوعة جداً بحيث يصعب تصنيفها ككل بأنها من ذلك الأسلوب. وتصنف الكثير من أعماله على أنها أدب خيالي أو غير خيالي وخصوصا عمله المسمى حكاية موت معلن 1981 م التي تحكي قصة ثأر مسجلة في الصحف وعمله المسمى الحب في زمن الكوليرا 1985 م الذي يحكي قصة الحب بين والديه.
ومن أشهر رواياته مائة عام من العزلة 1967 م، والتي بيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة والتي تروي قصة قرية معزولة في أمريكا الجنوبية تحدث فيها أحداث غريبة. ولم تكن هذه الروابة مميزة لاستخدامها السحر الواقعي ولكن للاستخدام الرائع للغة الإسبانية. دائما ما ينظر إلى الرواية عندما تناقش على انها تصف عصورا من حياة عائلة كبيرة ومعقدة. وقد كتب أيضا سيرة سيمون دو بوليفار في رواية الجنرال في متاهة.
ومن أعماله المشهورة الأخرى خريف البطريرك، عام 1975 م، وسرد أحداث موت معلن، عام 1981 م، والحب في زمن الكوليرا، عام 1986 م.
تم اقتباس رواية جارسيا قصة موت معلن وتحويلها إلى عمل مسرحي في حلبة مصارعة الثيران بقيادة المخرج الكولومبي الشهير خورخي علي تريانا.
ومن كتبه كتاب اثنا عشر قصة مهاجرة يضم 12 قصة كتبت قبل 18 عاماً مضت، وقد ظهرت من قبل كمقالات صحفية وسيناريوهات سينمائية، ومسلسلاً تلفزيونية لواحدة منها، فهي قصص قصيرة تستند إلى وقائع صحيفة، ولكنها متحررة من شرطها الأخلاقي بحيل شعرية.
كما أصدر مذكراته بكتاب بعنوان عشت لأروي والتي تتناول حياته حتى عام 1955 م, وكتاب مذكرات عاهرات السؤ تتحدث عن ذكريات رجل مسن ومغامراته العاطفية، والأم الكبيرة.
عام 2002 م قدم سيرته الذاتية في جزئها الأول من ثلاثة وكان للكتاب مبيعات ضخمة في عالم الكتب الإسبانية. نشرت الترجمة الإنجليزية لهذه السيرة أعيش لأروي على يد ايدث جروسمان عام 2003 م وكانت من الكتب الأكثر مبيعا. في 10 سبتمبر 2004 أعلنت بوغوتا ديلي إيلتيمبو نشر رواية جديدة في أكتوبر بعنوان (Memoria de mis putas tristes) وهي قصة حب سيطبع منها مليون نسخة كطبعة أولى. عرف عن ماركيز صداقته مع القائد الكوبي فيدل كاسترو وكذلك صداقته للقائد الفلسطيني ياسر عرفات وأبدى قبل ذلك توافقه مع الجماعات الثورية في أمريكا اللاتينية وخصوصا في الستينيات والسبعينيات. وكان ناقدًا للوضع في كولومبيا ولم يدعم علنيا الجماعات المسلحة مثل فارك FARC وجيش التحرير الوطني ELN التي تعمل في بلاده.
بعض أعماله القصصية
أجمل غريق في العالم
ظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطيء وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق. شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث. أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :
"ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه." عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت. كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..
كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد.. في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق ...أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..
لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..
لم تجد نساء القرية للجثة ، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية. فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من "الأورغندي" الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال.. جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر "الكاراييب" أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن " أن لذلك علاقة بالميّت" ، وقالت أخرى " لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف".. أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..
دخلت النسوة في متاهات الخيال. قالت أكبرهن:" للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان". كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل "لوتارو". في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..
بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله...ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له "ابق وأشرب القهوة معنا" ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: "حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله". هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..
في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..
وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض.. عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة. قالت النسوة: "الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!".. أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين. ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت "الكتفيّة" حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :" مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟"..
بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: "إنه إستبان!" لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..
لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد! إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: "لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه."
أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.
عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء.. في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب ، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق. ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..
عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..
منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم: "أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس. هناك هي قرية إستبان!".
ضوء مثل الماء
في عيد الميلاد، عاد الطفلان الى طلب زورق التجديف.
قال الأب:
حسن، سنشتريه حين نعود الى كارتاخينا.
لكن توتو، في التاسعة من عمره، وجويل في السادسة، كانا أشد تصميماً مما اعتقده أبواهما. فقد قالا معاً:
-لا. إننا نحتاجه الآن وهنا.
قالت الأم: أولاً لا يوجد ماء للإبحار سوى الماء الذي ينزل من الدش.
وقد كانت هي وزوجها على حق، ففي بيتهم في كارتاخينا دي اندياس يوجد فناء فيه رصيف على الخليج، ومكان يتسع ليختين كبيرين، أما هنا في مدريد فيعيشون محشورين في شقة في الطابق الخامس من المبنى رقم «47» في شارع باسيودي لاكاستيانا. ولكنهما في النهاية لم يستطيعا هو أو هي، أن يرفضا، لأنهما كانا قد وعدا الطفلين بزورق تجديف مع آلة سدس وبوصلة، فإذا فازا بإكليل الغار في السنة الثالثة ابتدائية، وقد فازا به. وهكذا اشترى الأب كل شيء، دون أن يخبر زوجته، وهي الأكثر معارضة لتحمل ديون من أجل الألعاب، كان زورقاً بديعاً من الألمونيوم، مزين بخط ذهبي عند حد الغطاس. وقد كشف الأب السر عند الغداء.
ـ الزورق موجود في الكراج.
المشكلة أنه لا يمكن الصعود به في المصعد أو على السلم، وفي الكراج لا يوجد مكان كاف. ومع ذلك، دعا الطفلان أصدقاءهما يوم السبت التالي للصعود بالزورق على السلم، وتمكنوا من حمله الى غرفة المستودع في البيت.
قال لهم الأب: تهانينا.. ثم ماذا الآن؟
قال الأطفال - الآن لا شيء كل ما كنا نريده هو حمل الزورق الى الغرفة، وها هو ذا هنا.
يوم الاربعاء ليلاً، وكما في كل أربعاء، ذهب الأبوان الى السينما، أما الطفلان اللذان صاحبا وسيدا البيت، فقد أغلقا الأبواب والنوافذ، وكسرا أحد مصابيح الصالة المضاءة. فبدأ يتدفق تيار من الضوء الذهبي والبارد من المصباح المكسور، وتركاه يسيل الى أن بلغ ارتفاعه أربعة أشبار. عندئذ أقفلا التيار، وأخرجا الزورق وأبحرا بمتعة بين جزر البيت.
وقد كانت هذه المغامرة الخرافية نتيجة طيش مني حين شاركت في ندوة حول شعر الأدوات المنزلية، فقد سألني توتو كيف يضاء النور بمجرد ضغط الزر، ولم تكن لدي الشجاعة للتفكير بالأمر مرتين حين أجبته:
الضوء مثل الماء: يفتح أحدنا الصنبور، فيخرج.
وهكذا واصلا الابحار كل أربعاء ليلاً، وتعلما استخدام آلة السدس والبوصلة، وحين كان الأبوان يرجعان من السينما يجداهما نائمين على اليابسة كملاكين. وبعد عدة شهور، كانا يتحرقان للمضي الى ما هو أبعد من ذلك، فطلبا أجهزة للصيد تحت الماء، مجموعة كاملة، أقنعة، أقدام زعنفية، أسطوانات أكسجين، وبنادق هواء مضغوط.
قال الأب: أمر سيء. أن يكون لديكما في غرفة المستودع زورق تجديف لا يمكن استخدامه في شيء. ولكن الأسوأ من ذلك هو أن تطلبا حيازة أجهزة غوص.
قال جويل: وإذا فزنا بالغار الذهبية في الفصل الأول من السنة؟
فقالت الأم مذعورة - لا - لا شيء آخر.
لامها الأب على عدم تساهلها.
فقالت: المشكلة أن هذين الولدين لا يفوزان بقلامة ظفر لمجرد القيام بالواجب، أما من أجل نزواتهما فإنهما مستعدان للفوز حتى بكرسي المعلم.
ولم يقل الأبوان في نهاية الأمر «نعم» ولم يقولا «لا». ولكن توتو وجويل اللذين كان ترتيبهما الأخير في السنوات السابقة، فازا في يوليو بالغارونيتين الذهبيتين وثناء المدير العلني. وفي ذلك المساء بالذات، ودون أن يطلبا، وجدا في غرفة نومهما أجهزة الغوص في علبتها الأصلية. وفي يوم الاربعاء التالي، بينما كان الأبوان يشاهدان «التانغو الأخير في باريس» ملأ الطفلان الشقة الى ارتفاع ذراعين، وغاصا مثل سمكتي قرش وديعتين تحت الأثاث والأسِرّة، وأخرجا من أعماق الضوء الأشياء التي كانا قد فقداها منذ سنوات في الظلام. وعند منح الجوائز النهائية، أختير الأخوان كتلميذين مثاليين في المدرسة، وقدمت لهما شهادات امتياز. وفي هذه المرة لم يطلبا شيئاً، لأن الأبوين سألاهما عما يريدانه، وقد كانا عاقلين لدرجة أنهما لم يرغبا إلا في إقامة حفلة في البيت لتكريم زملائهم في الصف.
كان الأب متألقاً وهو يتحدث على انفراد مع زوجته.
ـ هذا دليل على نضجهما.
فقالت الأم:
ـ الله يسمع منك.
وفي يوم الاربعاء التالي وبينما الأبوان يشاهدان فيلم «معركة الجزائر» رأى الناس الذين كانوا يمرون في شارع كاستيانا شلالاً من الضوء يهوي من عمارة قديمة مختفية بين الأشجار، كان يخرج من الشرفات، ويتدفق بغزارة على واجهة المبنى، ويجري في الجادة العريضة في سيل ذهبي يضيء المدينة حتى غواداراما.
حطم رجال الإطفاء الذين استدعوا على عجل باب الطابق الخامس.
ووجدوا البيت طافحاً بالضوء حتى السقف. كانت الاريكة والمقاعد المغلفة بالجلد تطفو في الصالة على مستويات متعددة ما بين زجاجات البارد والبيانو بشرشفه الذي صنع من المانيلا، والذي كان يتحرك وسط الماء مثل سمكة مانتاريا ذهبية. وكانت الأدوات المنزلية في أوج شاعريتها، تطير بأجنحتها الخاصة في سماء المطبخ. وأدوات الجوقة الحربية التي كان الطفلان يستخدمانها للرقص، كانت تطفو على غير هدى بين الأسماك الملونة التي تحررت من الحوض الذي تحبسها فيه ماما. وكانت تلك الأسماك الملونة التي تحررت هي الوحيدة التي تطفو حية وسعيدة في المستنقع الفسيح المضيء. وفي الحمام كانت تطفو فراشي أسنان الجميع وواقيات منع الحمل المطاطية التي يستخدمها بابا. وأنابيب الكريمة وطقم أسنان ماما الاصطناعية. وكان تلفزيون الصالة يطفو مائلاً وهو لا يزال مفتوحاً يبث الحلقة الأخيرة من فيلم منتصف الليل المحظور على الأطفال.
وفي نهاية الممر، كان الصغيران يطفوان بين ماءين.. توتو جالساً في مقدمة الزورق، متشبثاً بالمجدافين والقناع على وجهه، وهو يبحث عن فنار الميناء الى حيث سمح له الهواء الذي في الاسطوانة، وجويل يطفو في مؤخرة المركب وهو لا يزال يبحث بآلة السدس عن موقع نجم القطب. وكان يطفو في جميع أرجاء البيت رفاقهم في الصف السبعة والثلاثين وقد تخلدوا في لحظة تبولهم في أصيص الجرانيوم، وغنائهم النشيد المدرسي بكلمات محورة من سخرية المدير، أو تناولهم خفية كأس براندي من زجاجة بابا. ذلك أنهم كانوا قد فتحوا أنواراً كثيرة في وقت واحد جعلت البيت يطفح، وغرق جميع التلاميذ.. تلاميذ الصف الرابع الابتدائى في مدرسة سان خوليان في الطابق الخامس من المبنى «47» في باسيو دي كاستيانا في مدريد بأسبانيا المدينة البعيدة عن الأصياف الملتهبة والرياح المتجمدة، والتي لا بحر فيها ولا نهر، والتي لم يكن سكان يابستها يوماً من الأيام ماهرين في فنون الإبحار في الضوء.
متـــــــــى
الزفاف ياعروس الربيع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)