ولد نيقولاي غوغول في عام 1809 في أوكرانيا التي كانت جزءاً من الامبراطورية الروسية، ثم انتقل للإقامة في سانكت بطرسبورغ.

بدأ غوغول بنشر قصصه القصيرة في بطرسبورغ من خلال مجلاتها الأدبية. ومن ثم اصدرها ضمن مجموعة قصصية بعنوان "أمسيات في مزرعة ديكانكا" حيث يتحدث عن أسلوب حياة الأوكرانيين وتقاليدهم ونمط تفكيرهم . وبعد ذلك كتب مسرحيته المشهورة "المفتش العام" التي سخر فيها من أوضاع الفساد الإداري السائدة في الأقاليم الروسية، وفيما بعد صدرت له قصة "شارع نيفسكي".

ويثير اهتماماً خاصاً لدى القراء والنقاد خلال أكثر من قرن ونصف رواية" الانفس الميتة " التي تعد واحدة من أهم وأروع مؤلفات الأدب الروسي. وتعكس هذه الرواية شتى أشكال الطبائع البشرية في ظل نظام القنانة . كما تضم الرواية وصفاً مسهباً ودقيقاً للمدن والقرى الروسية على تخوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

وكتب غوغول عشرات القصص التي أسست لأدب مختلف ومغاير لما كان سائداً آنذاك. وقد اعتبرت قصته "الأنف" نقلة نوعية في مسار الأدب الروسي عامة، فهي تروي حكاية الرائد كوفاليوف الذي تنتابه حالة عصبية ،فهو يبحث عن أنفه الذي اختفى في عاصمة القيصر بينما يعيش الأنف حياة خاصة به.

لقد كان نيقولاي غوغول كاتبا استشرافيا يقرأ الحاضر بلغة الغد، ولشدة عمقه الإنساني عاشت كتاباته وصمدت طيلة تلك السنوات، ورغم ظهور عشرات، بل مئات القصص والمسرحيات بعد "المعطف"، إلا أن "معطفه" كان العمل الفني المكتمل، الذي لا يتجاوزه الدارسون أو المبدعون.


* * * * * * *


في الأول من نيسان عام 2009 احتفلت الأوساط الرسمية والأدبية في روسيا وفي بلدان مختلفة من العالم بالذكرى 200 لميلاد الكاتب الروسي الفذ وعملاق السخرية واب القصة القصيرة في روسيا نيكولاي غوغَول.

عندما أطلع بوشكِين على الفصول الأولى من ملحمة غوغَول الخالدة " الانفس الميتة " ما كان منه إلا أن قال بأسى بالغ : " يا إلهي ، كم هي روسيا بائسة " .

حقاً، إن هذه العبارة كافية للتأكيد على ثانوية الجانب الكوميدي في مسرحية غوغَول تلك وأن الضحِك في تقييم " الانفس الميتة " من الناحية الأدبية لا أهمية له .

ما زالت روسيا تعيش أجواء الاحتفالات بمناسبة مرور مائتي سنة على ميلاد واحدة من أعظم القامات الإبداعية في العالم، أحد أكبر أساتذة الفن السردي وإمام السخرية السوداء – نيقولاي فاسيلييفيتش غوغَول . فقبل مائتي عام، في الأول من نيسان عام 1809 ولد أديب روسيا الفذ غوغَول في قضاء ميرغورودسكي من مقاطعة بولتافا، ذلك القضاء الذي سيصبح فيما بعد عنواناً لسلسلة من قصص الكاتب. كان والده مولعاً بالأدب عموماً وبالمسرح بوجه خاص وهذا ما سمح لمؤلف رواية " المفتش العام" أن ينمّي في نفسه مشاعر الجَمال والذوق الرفيع وهو يراقب المسرحيات التي كانت تعرض في دارة أحد أنسباء آل غوغَول والذي كان يمتلك إلى جانب ذلك مكتبة فاخرة .

كانت الرواية الشعرية " هانس كيوهيل هارتِن " أول ما كتبه غوغَول في عام 1827 وتمت طباعتها في عام 1829. لكنها لم تلقَ استحساناً عند الجمهور.. بل على العكس أثارت حملة من السخرية، مما دفع بصاحبها الممتلئ بعزة النفس لأن يشتري ويتلف جميع النسخ .

في عام 1830 يتعرف غوغَول إلى اثنين من عمالقة الأدب الروسي هما جوكوفسكي (فاسيلي أندرييفيتش جوكوفسكي 1783- 1852 شاعر روسي مؤسس المدرسة الرومانسية في الأدب الروسي . ترجم إلى الروسية " الأوذيسة " لهوميروس وأعمال شيلر و بايرون) وبوشكين ..

ولاحقاً يقوم بنشر مجموعة قصصه " أمسيات " التي ستشكّل فيما بعد المجلّد الأول والثاني من أعمال غوغَول الكاملة .

وفي عام 1842 اطلع جمهور بطرسبورغ على المجلد الثالث من أعمال غوغَول والذي كان يضم سلسلة " قصص من بطرسبورغ " .

في 19 نيسان من عام 1836 تم أول عرض لمسرحية " المفتش العام " الكوميدية، وذلك على خشبة المسرح الامبراطوري وبحضور القيصر نيقولاي الأول الذي امتدح المسرحية قائلاً : " الجميع ملومون وأنا أولهم ". ثمة مَن يعتقد أن بوشكِين هو الذي أوحى بفكرة المسرحية لغوغَول .

وخلال إقامته في الخارج أنجز غوغَول رواية " الانفس الميتة " التي اعتبرها الناقد الروسي المعروف بيلينسكي (فيساريون غريغورييفيتش بيلينسكي 1811 – 1848 ناقد أدبي روسي معروف وفيلسوف، صاحب المدرسة الطبيعية في الفلسفة. كان له تأثير كبير على تطور الأدب والفكر الاجتماعي في روسيا. عاصر بوشكِين وليرمنتوف وغوغَول) من أعظم ما كتب غوغَول . أما دوَسْتَويفسكي فأطلق مقولته التي ستصبح مأثورة : " كلنا خرجنا من ( معطف ) غوغَل " ...

وفي عام 1841 عاد غوغَل إلى روسيا وفي حوزته المجلد الأول من الرواية العظيمة " الملحمة " .. وفي عام 1842 بدأ بكتابة المجلد الثاني من " الملحمة " .. لكنه أحرق المخطوطة بعد ثلاث سنوات .. ليعود بعد ثلاث سنوات أخرى و يبدأ بكتابة" الملحمة " من جديد .. لكن ليعود ويحرقها قبل أيام من وفاته بعد أن أصبحت عملاً منجزاً كاملاً تماماً .

توفي غوغَول في 4 آذار من عام 1852 في فقر مدقع و بعد أن عانى الكثير من المرض.


غوغَول في القدس



لقد كُتِب الكثير عن الجانب الأدبي في إبداع الكاتب العظيم غوغَول الذي اعتبره النقاد عن حق بمثابة أب القصة الروسية - إذ من " معطف" خرجت إلى النور القصة القصيرة في روسيا .

لكنه لم يكتب إلا القليل جداً عن الخلفية الدينية لمؤلف " تأملات بخصوص القداس الإلهي " ، أو أن الدارسين أشاروا بإيجاز إلى مناجاة غوغَول للسيد المسيح في الأعوام الأخيرة من حياته.

علماً أن غوغَول قام برحلة حج بكل معنى الكلمة إلى الديار المقدسة وكان يعتبر هذا الحج ذروة النضج والتطهر الروحي لديه. و قد كانت فكرة زيارة الأراضي المقدسة وتحقيقها عند غوغَل مرتبطة بشكل وثيق مع توجهه الديني والأخلاقي . لهذا كان الكاتب ينظر إلى رحلته إلى فلسطين على أنها " الحدث الأهم في حياته " . فمن خلال رسائله لأصدقائه يتضح أن رحلة الحج تلك كانت ضرورية بالنسبة له من الناحية الإبداعية والروحية. و قد اتحد هذا الجانب مع ذاك لدى الكاتب خصوصاً في سنواته العشر الأخيرة .

ليس معروفاً بالتحديد متى نشأت النية عند غوغَول لزيارة الأراضي المقدسة. لكن اللافت للنظر أن مصير اثنين من زملائه في المدرسة الدينية ارتبط بالقدس : فيكتور كامينسكي زار الأراضي المقدسة ثلاث مرات وتوفي في القدس، و قسطنطين بازيلي الذي شغل منصب القنصل الروسي العام في سورية و فلسطين، وقد رافق غوغَل عام 1848 خلال زيارته إلى الأرض المقدسة .

إذا كان السفر إلى أوروبا يعتبر أمراً عادياً في ذلك الزمن بالنسبة للمجتمع النخبوي الروسي، فإن زيارة القدس كانت أمراً نادراً واستثنائياً في أوساط الطبقة العليا. و قد كان ذلك يعود إلى الصعوبات الكثيرة المتعلقة بالمسافة الكبيرة وبمشقة السفر. لذلك فإن رغبة كاتب محسوب على النخبة مثل غوغَول، خاصة وأن مؤلفاته لم تكن تعكس تديناً عميقاً لديه , بزيارة القدس قد أدهشت الكثير من الناس .

في البداية كان غوغَول قد قرر الانطلاق في رحلة الحج إلى القدس بعد انتهائه من " الانفس الميتة ". لكن الانتظار ريثما يتلقى بعض المال لقاء عمله لم يكن السبب الوحيد وراء تأجيل رحلته، بل كانت ثمة أسباب روحية أيضاً لذلك. و بدءاً من منتصف عام 1843 يصبح السفر إلى القدس علامة لا الانتهاء من الرواية، وإنما شرطاً ضرورياً للإبداع بحد ذاته، بمثابة تشجيع و إثارة للكاتب .

إلا أن رحلة الحج إلى الأرض المقدسة لم تتم سوى في عام 1848 . قبل ذلك، في عام 1847 وبسبب التزايد الواضح في عدد الحجاج الروس إلى الأراضي المقدسة تم تأسيس البعثة الدينية الروسية في القدس. و قد تم تعيين رئيسً لها الأسقف أوسبينسكي، الخبير بثقافة الشرق المسيحي. وكان من بين أعضائها القس بيوتر سولَوفْيوف الذي ترك لنا بعض الذكريات عن لقائه مع غوغَول في كانون الثاني من عام 1848 على السفينة " اسطنبول " المتجهة نحو شواطئ سورية – حيث وجب ان تنتقل المجموعة من بيروت إلى القدس ". وكتب سولوفيو ف يقول: "كان يسافر على " اسطنبول " عدد كبير من الناس، كان أغلبهم متوجها لزيارة الأراضي المقدسة. لم يكن معروفاً لأية قوميات ينتمي هؤلاء. كانوا وكأنهم مواطنون من بلد واحد. وحدنا بقينا متميزين بين ذلك القوم من مختلف الأجناس، و لم نكن نشترك في شيء مع تلك الغوغاء من الناس. ولكن تبين أنه ثمة شخصين روسيين غيرنا ... أحدهما طويل مكتنز، والآخر قصير القامة بأنف طويل وشاربين سوداوين وتسريحة شعر على طريقة a la Artist ، كان محدودب الظهر قليلاً وعيناه تنظران نحو الأسفل بصورة دائمة. كل شيء في هندامه كان يشير إلى أنه فنان سائح . وبالفعل، لقد كان هذا الفنان هو كاتبنا العبقري نيقولاي فاسيلييفيتش غوغَول، أما مرافقه فهو الجنرال كروتوف " .

و في بيروت نزل غوغَول عند رفيق الصبا في المدرسة القنصل الروسي العام في سوريا قسطنطين بازيلي . ومن هناك انطلق غوغَول و الجنرال كروتوف برفقة بازيلي " عبر صيدون ( صيدا ) و صور القديمة نحو القدس " .

فيما بعد، في 28 شباط من عام 1850 كتب غوغَول رسالة إلى جوكوفسكي يصف فيها الانطباعات التي تركتها رحلته تلك : " لقد رأيتُ هذه الأرض كما لو في الحلم. نهضنا من نومنا قبل شروق الشمس، ركبنا البغال و الأحصنة و معنا مرافقون راجلون و راكبون على الخيول، و ببطء شديد اجتازت القافلة صحراء صغيرة لتسير تارة على الشاطئ و تارة تخوض في مياه البحر، فمن جهة كان البحر يحيط بحوافر الخيل ومن جهة أخرى كانت تمتد كثبان رملية أو صخور بيضاء نادراً ما كانت تنمو عليها أعشاب أرضية؛ و لنصل عند منتصف النهار إلى بئر هي عبارة عن مكان مرصوف بالحجارة مخصص لتجميع مياه الأمطار محاط باثنتين أو ثلاث من أشجار الزيتون. هنا توقفنا لمدة نصف ساعة ثم انطلقنا في الطريق من جديد إلى أن بانت لنا في الأفق المسائي الذي لم يعد أزرق، بل نحاسي اللون بفضل غروب الشمس، خمس – ست أشجار من النخيل و معها مدينة صغيرة تخترق عتمة مشوبة بألوان قوس قزح، وقد كانت المدينة أشبه باللوحة من بعيد لكنها فقيرة بائسة عن كثب، ربما صيدون أو صور. و هكذا كانت الصورة طوال الطريق حتى القدس " .

كما كتب عن تلك الرحلة في صحراء سورية وذلك نقلاً عن بازيلي نفسه بانتيليمون كوليش - أول من كتب سيرة غوغَول : " كان بازيلي الذي يشغل منصباً رفيعاً في سورية، يمارس تأثيراً كبيراً على عقول الناس المحليين. و لكي يحافظ على هذا التأثير كان مضطراً لأن يلعب دور شخصية هامة وصاحب نفوذ فوق العادة لا يقيم أي اعتبار سوى لسلطة " بادِ شاه المعظّم ( القيصر ) ". و كم كانت دهشة الناس المحليين عظيمة عندما رأوه في خضوع تام لمرافقه النحيف وغير الوسيم! كان غوغَول الذي هدّه قيظ الصحراء الرملية قد فَقَدَ صبره بسبب إزعاجات الطريق المختلفة والتي كانت تافهة، من وجهة نظره، و يمكن حلّها ببساطة – مما دفعه أكثر من مرة لأن يخرج عن طوره معبراً عن ذلك بحركات و إشارات كانت تبدو للناس المحليين برهاناً على وضاعة القنصل الرهيب. و قد كان ذلك مدعاة لعدم رضى صديقه، الذي كان يتخوف من انعكاس ذلك على سلامتهما الشخصية وهما يسافران عبر الصحراء . إذ لم يكن يحرسهما سوى التقدير الرفيع لبازيلي باعتباره صاحب شأن عظيم في الدولة الروسية. لذلك فقد راح القنصل يرجو غوغَول أن يخبره بما يريد على انفراد .. وافق الكاتب على ذلك، لكنه عند أول امتعاض نسي الشرط المتفق عليه مع صديقه و تحول إلى ما يشبه الطفل المدلل. فلم يبقَ أمام بازيلي إلا أن يتعامل مع صديقه، كما لو مع أقل المرؤوسين شأناً .. فكان له ما أراد : اضطر الكاتب للصمت و تَيقَّن السكان المحليون من أن بازيلي بالفعل ذو شأن وأنه لا سلطة عليه سوى سلطة بادِ شاه المعظّم " .

وصل الكاتب ورفيق دربه إلى أورشليم-القدس في منتصف شباط من عام 1848. وقد وردت في دفتر يوميات غوغَول الملاحظة التالية : " نيكولاي غوغَول في المدينة المقدسة ". وثم " أقيمت الصلاة في أورشليم - القدس بمناسبة وصولنا بخير. يجب أن أعيد تذكّر كل ما أردت أن أستفسر عنه. و يجب شراء صلبان ومسابح صدفية و إيقونات من مختلف الأنواع و أن أطهّرها عند قبر الرب " .

مما لا شك فيه أن فترة وجود غوغَول في الأراضي المقدسة وأثرها الروحي عليه لم تحظ بالدراسة الكافية بعد. لكن النتيجة الحقيقية لزيارته إلى الأرض المقدسة كانت اكتسابه السلام الروحي العميق وامتلائه بمشاعر المحبة تجاه جميع الناس . وهذا ما يجب أن نفهمه من رسالة غوغَول إلى الكاتب الروسي جوكوفسكي في نهاية عام 1850 : " لقد قمت برحلتي إلى فلسطين بالضبط لكي أعرف شخصياً ولكي أدرك بنفسي كم كان قلبي ممتلئاً بالقسوة. كم كانت كبيرة تلك القسوة، يا صديقي ! لقد كان لي الشرف بأنني أمضيتُ ليلة قرب قبر المخلِّص، كان لي الشرف بأن انضممتُ إلى تلك الأسرار العظيمة المقدسة القائمة فوق ذات الضريح، ورغم ذلك لم أصبح أكثر نقاء، في حين كان من الضروري أن يحترق كل ما هو أرضي عندي فلا يبقى سوى ما هو سماوي " .