يتداول الشارع العربي كثيرا من التعليقات الساخرة والهادفة في آن واحد منذ بزوغ فجر الثورة العربية الكاسحة، منها أن الرئيس الذي يواجه غضب الشارع أمامه ثلاث خطب يلقيها على شعبه قبل أن يسقط وفيها يعترف طبعا بمطالب الشباب ويعد بالإصغاء إليها وتحقيقها ويذكر بمسيرة الإصلاح التي بدأت، وبين هذا وذاك يسارع إلى تعديل وزاري أو إسقاط الحكومة. مر أسبوعان تقريبا على اندلاع شرارة ثورة التغيير في قلعة القومية العربية سورية وكانت خلالها أصوات المعارضة تتعالى منتقدة الرئيس بشار الأسد على صمته وتقديم مستشارته للحديث بدلا عنه، فقلت لعله تطير بحكاية خطب الرؤساء فقرر أن يصوم عن الكلام مهما حصل حتى لا يهدم عرشه بلسانه، لكنه استسلم أخيرا ورأى أن يخرج إلى العلن متحديا أو متناسيا هذا الفأل العربي السيئ.
طبعا لا أحد ينتظر أن يعلن الأسد في خطابه المقرر اليوم تنحيه عن الحكم أو يحدد تاريخا قريبا لانتخابات رئاسية مبكرة أو على الأقل أن يضع منصبه بين أيدي السوريين في استفتاء شعبي. فاروق الشرع نائب الرئيس استبق الخطاب وقال إن سيادة الرئيس سيقول كلاما مطمئنا ويعلن عن قرارات تسعد الشعب السوري، علينا أن ننتظر ما يقوله الرئيس ثم نرى كم من الشعب السوري بالضبط سعد لكلامه. لم يكن أحد يتوقع أن يعلن الرئيس التونسي الهارب بن علي عن إقالة البرلمان وتنظيم انتخابات مبكرة وعن إصلاحات دستورية عميقة ولم يكن أحد ينتظر منه أن يقول قبل ثلاث سنوات من انتهاء فترته إنه لن يترشح لفترة لاحقة مع أن الدستور المغتصب عدة مرات صار يجيز له ذلك حتى الممات، ولم يكن أي مواطن مصري يتوقع أن يقبل الرئيس المخلوع مبارك بتعيين نائب له ويفوض له بعد ذلك كامل صلاحياته ويعلن أنه لم يكن (ينتوي) الترشح لفترة أخرى، تماما مثلما فعل الرئيس اليمني الغارق عندما قال إنه لن يتمدد في الحكم لفترة أخرى ولن يورّث عرشه لابنه وسيحول البلد من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، كلام لو خرج من أفواه هؤلاء الطغاة قبل أن تنتفض شعوبهم لانحنت لهم رؤوس شعوبهم تقديرا واحتراما رغم ما ارتكبوه من فظائع ومظالم في حق الناس، لكنهم أكدوا للعالم أنهم من سلالة فرعون الذي رفض الاعتراف بربه وبرب موسى إلا عندما أدركه الغرق، أي بعد فوات الأوان. القرارات الهامة قد تصبح تنازلات في فترة من الفترات لكنها لن تصبح ذات قيمة عندما تتحول إلى مساومات لا هدف من ورائها إلا الاستمرار في الحكم.
قد يكون الرئيس بشار الأسد ضحية مستشاريه الذين ورثهم من عهد والده وسهروا على تنفيذ وصية توريثه الحكم، فهؤلاء لا يختلفون كثيرا عن طينة بن علي ومبارك والقذافي وصالح ونصائحهم إزاء انتفاضة الشعب لن تكون شيئا آخر عن ضرورة الإسراع بالقمع الوحشي حتى تنطفئ (نار الفتنة) في مهدها، هذا هو رد فعل أصحاب الفكر الديكتاتوري ولو كانوا يرون مع طلوع شمس كل يوم أن ذلك لم يعد فعالا. لا أدري إن كان بشار الأسد مؤمنا في قرارة نفسه أنه سيستمر في الحكم حتى يتوفاه الله، لكني لا أستبعد ذلك بعد الذي رأيناه في رد فعل النظام لمواجهة شباب درعا والمحافظات والمدن السورية الأخرى.
وما (المسيرات المليونية) التي انطلقت أمس في دمشق وباقي أرجاء سورية تحت شعار (الوفاء للوطن والتأكيد على الوحدة الوطنية والحفاظ على الأمن والاستقرار ودعم برنامج الإصلاح الشامل الذي يقوده السيد الرئيس بشار الأسد) إلا مؤشر على أن منحى الأحداث في سورية لن يكون مختلفا عن التطورات التي عرفتها تونس ومصر واليمن وليبيا، بل حتى الذين أوعزوا بإخراج هذه الجماهير المغلوبة على أمرها إنما يريدون فرض خط سير محدد للحراك الشعبي في سورية والغريب أنهم أخرجوا الناس قبل أن يلقي سيادة الرئيس خطابه وكأنهم يقولون للناس لا تهتموا لما سيقوله رئيسكم فهو لن يحمل أي جديد يسعدكم.
عندما أخبرني صديق سوري أن الجماهير تحتشد في دمشق للخروج في مظاهرات تأييد للسيد الرئيس وضعت يدي على قلبي خشية تحول أزقة الشام إلى وديان دم وتساءلت من هذا المجرم الذي قرر إخراج الناس إلى الشارع وهو يعرف تماما أن البلد صار يعج بالمندسين والإرهابيين ورجال الموساد الذين لا يتورعون عن قتل الأبرياء في الشوارع؟ ألم يستمع محركو هذه الجماهير المليونية إلى السيدة بثينة شعبان وإلى سماحة المفتي ووزير الشؤون الدينية وإلى نقيب الصحافيين وغيرهم من خيرة رجال ونساء السلطة وهم يؤكدون أن الذين قتلوا شباب درعا وغيرهم من الشباب المنتفض في المدن الأخرى إنما هم مندسون وإرهابيون قدموا من الخارج لتنفيذ مخططات أعداء سورية؟
ألم يشاهد منظمو المسيرات المليونية ذلك الشاب المصري وهو يعترف بخشبة لسانه أنه كان يعمل لحساب جهات خارجية؟ أم لعلهم تلقوا ضمانات أكيدة من هؤلاء المندسين وعناصر الموساد أنهم لن يستهدفوا أية مسيرة تساند سيادة الرئيس وإصلاحاته؟ أم لعل أجهزة الأمن أكدت لهم أنها تمكنت من السيطرة على جميع هذه العناصر المندسة وأن البلد صار آمنا؟
وهنا صار حقا على أبناء درعا ودعاة الحرية والتغيير في داخل سورية أن يعودوا للخروج إلى الشوارع التي صارت آمنة وخالية من قناصة الموساد. اخرجوا واهتفوا بما شئتم ولن يصطادكم أحد بعد الآن. بثينة شعبان والمفتي وغيرهم وعدوا أن تظهر نتائج التحقيقات في جرائم العناصر المندسة والموساد في ساعات قليلة أو في القريب العاجل، لكننا لم نر شيئا من هذا إلا ذلك الشاب المصري العميل الذي كان يتحرك على ظهر براق ليقتل الناس هنا وهناك في وقت واحد.
بشار الأسد أصغر من بن علي ومبارك وصالح والقذافي بسنوات عديدة قد تصل إلى نصف أعمارهم لكنه مع ذلك يصر على أن يفعل مثلهم ويفكر بعقولهم وكأنه لا يعلم أن أمل بقائه على قيد الحياة يمتد إلى ثلاثين سنة على الأقل بينما هم يبدون على بعد أمتار قليلة من قبورهم. كان يحلو للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أن يردد في أشهر فترة حكمه الأولى أنه لا يطمح لتحقيق أي شيء وهو في السلطة لأنه يعتقد أن مستقبله تركه وراء ظهره أي أن مجده صنع قبل عقود، لا يمكن أن يكون هذا ما يعتقده الرئيس الأسد لأنه من جيل غير جيل الحكام العاجزين المحيطين بنا، ولذا كان لا بد عليه أن يفهم قبل فوات الأوان أن معطيات القرن الواحد والعشرين تختلف تماما عن ما كنا نعرفه في عالمنا العربي قبل ذلك. على الأسد أن يدرك أنه لن يبقى ذلك الرئيس الخالد في كرسيه ولن يعود بإمكانه توريث أحد من أبنائه بل لن يضمن إن سلم من الانتفاضة الحالية أن يبقى في الحكم سنة أخرى على أقصى تقدير. ماذا عليه أن يفعل إذن إذا أراد أن لا يلقى نفس مصير نظرائه الذين دخلوا مزبلة التاريخ؟ عليه أن يؤمن إيمانا صادقا أن عهد التغيير دق باب سورية وسيدخله طوعا أو كرها وأنه لا ينفع أمامه صمود ولا تصد ولا تحد. عليه أن يدرك تماما أن الشعب السوري قد خنع وذل بما فيه الكفاية وأن شبح الخوف قد غادر عقولهم إلى الأبد وأنهم مصممون على أن يعيشوا حياة كريمة شريفة حرة أو يموتوا دونها. لن يبقى شهداء الحرية في درعا ودمشق واللاذقي وغيرها على هامش الذاكرة ولن تستطيع أية آلة قمع أن تسكت الألسنة عن ذكرهم مثلما كان الحال مع ضحايا حماة، الوقت تغير وسنة الله ماضية لا مبدل لها ولا قاهر. أمام الرئيس بشار الأسد اختياران لا ثالث لهما، أن يسجل سابقة في الحكم العربي الحديث ويعيد للشعب كرامته وحقه في اختيار من يحكمه بكل حرية وشفافية أو أن يعيش ما بقي له من حياة خائفا مرعوبا تطارده كوابيس الانتفاضة والثورة الشعبية. تذكر الآن أنك في زهرة شبابك ولا ترتكب أخطاء نظرائك فتضيع مستقبلك ومستقبل أفراد عائلتك الصغيرة من أجل منصب لم ينصبك فيه الله ولم يفوضك فيه شعبك. القرارات التي عليك أن تتخذها يجب أن تكون في قمة الجرأة والشجاعة، لن أمليها عليك أنا ولكن أنصحك أن لا تدع أمثال الشرع ولا المعلم ولا شعبان يملونها عليك. الأخبار تقول إنك ستلقي خطابك أمام البرلمان، هل هذه خطوة حكيمة واختيار سليم للمكان أم علينا أن نبدأ العد التنازلي لخطاباتك؟
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)