قديما .. فى تلك السنوات الجميلة.. سنوات الطفولة وبراءتها بل وسذاجتها الرائعة التى افتقدها كثيرا
كان هناك لغزا كبيرا يحيرنى ويشغل تفكيرى ..
فمنذ الطفولة كان الشمس والقمر هما لغزى الكبير,
كنت دائما أتساءل : ترى إلى أين تذهب الشمس وتتركنا فى كل يوم حين يأتى وقت الغروب؟
ولماذا اختارت هذا الوقت تحديدا كى ترحل عنا؟
لماذا أيضا يأتى القمر بمجرد رحيل الشمس؟
ولماذا لا يجرؤ أن يأتى أبدا فى وجودها ؟
ومن الذى يخبر القمر بأن الشمس قد رحلت وأنه يتوجب عليه أن يأتى ويحل محلها حتى تعود إلينا من جديد؟
هل كل هذا من قبيل الصدفة؟
أم أن الشمس والقمر يأتيان ويرحلان بموجب إتفاق مسبق فيما بينها؟
وإن كان ذلك
فإلى أين تذهب تلك الشمس حين تختفى عن عيوننا؟
لقد رأيتها ذات مرة وهى تختبئ هناك خلف تلك المبانى البعيدة , فظننت بأن لها بيتا كباقى المخلوقات تذهب إليه بعد إنتهاء مهمتها كل يوم وهى متعبة,منهكة فتستريح قليلا وهى مطمئنة أن القمر قد تسلم مهمته عنها , ثم تأتى فى اليوم التالى كى تستأنف عملها من جديد .
ولكن كيف ذلك؟
فقد رأيتها مرة أخرى وهى تختبئ خلف البحر إلى أن اختفت فيه تماما ولم يبق منها سوى ضوء خافت لم يدم طويلا أمام بهاء القمر.
لقيد حيرتنى كثيرا تلك الشمس
حيرتنى لدرجة أننى قررت التوقف عن التفكير

القمر أيضا ,كان يمثل لى لغزا كبيرا , ولكننى كنت أحبه أكثر من الشمس , لأننى كنت استطيع أن انظر إليه طويلا دون أن تؤلمنى عيناى , بعكس الشمس , فقد كانت لا تسمح لى بأن أتأملها سوى بضع ثوان ثم أشعر بألم فى عيناى الصغيرتان , فأتركها بالطبع وأنظر لأى شئ آخر حتى ولو لم يكن على ذات القدر من روعة الشمس وبهائها

لقد نشأت منذ الطفولة صداقة جميلة بينى وبين القمر, كنا ننتظره فى كل ليلة أنا وصديقاتى كى نلعب ونلهو تحت ضوءه الجميل , ذات مرة أخبرتنى إحدى صديقاتى بأن القمر يرانا ويلعب معنا , ومن فرط سذاجتى رحت أجرى خلف القمر ربما أستطيع اللحاق به أو الإمساك به والصعود إليه , أو حتى رؤيته عن قرب , وبرغم أننى و بالطبع فشلت فى ذلك كله إلا أننى كنت سعيدة جدا وأنا أجرى خلفه وأتخيله يجرى أمامى ويهرب منى .

وبمرور السنوات تحولت الصداقة إلى حالة حب وعشق أنا والقمر طرفاها ,
كنت أنتظره فى كل ليلة لأتأمله وكنت أشعر كذلك أنه يتأملنى , كنت ألبس له أبهى ثيابى , وأخرج إليه وأنا فى كامل زينتى كعروس عاشقة تنتظر حبيبها
أفتح له ستائر غرفتى كى يتسلل ضوئه المخملى الذى أعشقه إليها
أجلس أمامه أتأمل هذا البهاء وهذا الضياء وأقوم مزهوة أختال فى غرفتى , أتأمل نفسى فى المرآة
يا لجمالى, أهناك امرأة فى هذا الكون تستحق أن يجلس معها القمر سواى؟
أضحك من حماقة السؤال, بالطبع لا , فهاهو القمر ذاته معى , يأتينى كل ليلة أنا دون سواى من نساء الأرض
كنت أبوح له بكل شئ , أحكى له كل ما يحدث معى من أحداث يومية ومواقف ولا أترك أى تفاصيل دون أن أخبره بها ,
كنت أضحك معه , وأبكى أيضا ,بل إنه لم ير دموعى أحد سواه , فهو حبى الأول وصديق الطفولة وكاتم أسرارى , ولا حدود لثقتى به .
فهو يأتى إلى مساء كل يوم ,كى يجلس معى وينير غرفتى ويسمعنى , ولا يمل أبدا من سماعى , ومن ثرثرتى , ومن دموعى .
وذات يوم ذهبت إلى إحدى صديقاتى , جلسنا تجاذبنا أطراف الحديث , كانت جلسة رائعة إلى أن حدث شئ غريب ,
فوجئت بصديقتى تعرف كل أسرارى التى كنت أحكيها للقمر والتى لا يعرفها أحد سواه , كيف علمت بكل ذلك؟
أنا لم أبح بها لأحد سواه ؟
وحين سألتها قالت لى : أخبرنى القمر فهو يأتى إلى فى كل ليلة ويبوح لى بكل شئ
صدمت بشدة ولكننى لم أصدقها فثقتى به كبيرة لا تهتز
من المؤكد أنها علمت بعلاقتى والقمر وتريد أن تفسد بينى وبينه , حتما تغار منى لأن القمر فضلنى أنا عن كل نساء الكون , تركتها غاضبة وقررت أن أسرع إلى بيتى كى أحكى له ما حدث , وأخبره بأن هذه التى كنت أظنها صديقة تريد أن تفسد بينى وبينه وتفقدنى ثقتى به سأخبره أننى لم أصدقها وأن ثقتى به لا حدود لها, وأننى أعلم بأننى أنا حبه الأول والأخير, سأخبره أيضا بــ......... هنا تسمرت مكانى وتاهت الكلمات على شفتاى
فعندما خرجت من بيتها رأيته هناك, عندها ,
نعم إنه القمر واقفا أمام بيتها تماما كما يقف أمام بيتى .
حينها سقطت من عيونى دمعة حارة ,
فقد أدركت تماما بأن صديقتى لم تكذب على
أدركت تماما:
أن القمر .. لا يأتى لأجلى وحدى
, وأنه .. لا ينير غرفتى وحدى ,
وأنه .. لا يستمع إلى وحدى ,
بكيت وبكيت على ثقة السنوات
فقد أدركت تماما
أن القمر .. لا يكتم الأسرار .



مودتي لكم