المرسوم (62) الذي يقضي بمنع التدخين في الأماكن العامة، من المراسيم التي حظيت باهتمام غير مسبوق من جانب الرأي العام. ومع سريان مفعول هذا المرسوم، ثمة أحاديث كثيرة يجري تداولها في أوساط شرائح المجتمع. والمواقف والاجتهادات التي تصدر من هنا وهناك، تختلف في رؤاها وتوقعاتها من شريحة إلى أخرى،.. لكن الأمر الأكيد والذي لا يقبل الجدل أو النقاش، بأن ثمة إجماع غير عادي على ضرورة تنفيذ كل ما جاء بمضامين القانون وتعليماته التنفيذية، انطلاقاً من إدراك الجميع، للمخاطر والأمراض التي يتسبب بها التدخين، بدءاً من أمراض القلب والسرطان وليس انتهاءً بأمراض الجهاز التنفسي..، بهذا المعنى، فإنَّ ما يصدر من اختلاف بالرأي ليس على المرسوم أو ما جاء في مضامينه من عقوبات وغرامات مالية بحق المخالفين. وإنما يأتي الخلاف على أرضية، فيما إذا كان المرسوم قابلاً للحياة وسيلقى نجاحاً فعلياً في التطبيق.. أم أنّه وكغيره من المراسيم، سوف يذهب إلى النسيان (وكأن شيئاً لم يكن).
فيما لو أخذنا بالصراحة والشفافية في نقل ما يجري من أحاديث في أوساط الرأي العام، فإنَّ الجانب الذي يتعين توجيه الأنظار له منذ الآن وبصوت عالٍ، أنَّ البعض يأخذه الاعتقاد وفي وقت مبكِّر، على أن المرسوم قد يشكل بوابة جديدة للذين يتمترسون خلف سلوكيات الفساد، فبعض الذين سيشرفون على آليات تطبيقه قد يعتبرونه فرصة لا تعوّض لتحصيل الأتاوات و"قبض المعلوم" من المخالفين الذين سيصادفونهم بأعداد كثيرة في المقاهي والمطاعم والفنادق ووسائط النقل العام وكل ما له علاقة بالأماكن العامة. ومن غير المستبعد أن يقوم البعض خلال الأيام الأولى بمخالفة المواطنين الذين يدخنون في الشارع!!
هذه التكهنات والاجتهادات التي تصدر بكثافة غير عادية هذه الأيام ستبقى مشروعة، وهي بالضرورة لم تأت من فراغ، وإنما نتيجة تجاوزات وخروقات كثيرة تصدر عن بعض القائمين عن تطبيق قوانين ومراسيم وقرارات حكومية، ولعلَّ أبرزها قانون السير الجديد الذي وبالرغم من كل ما حمله من إيجابيات ملموسة على صعيد تحسين الأداء المروري، فإنّ فئة من ضعاف النفوس جعلت منه وسيلة للابتزاز والإثراء وتحقيق المصالح المادية الشخصية.
بمنأى عن أية خروقات وتجاوزات سوف يشهدها مرسوم منع التدخين، فإن صدوره كان ضرورياً، وإمكان تطبيقه بين ليلة وضحاها ليس أمراً سهلاً. وفي حال الافتراض، أنّ نسبة الذين سيتقيدون به وبمضامينه خلال الشهور الأولى لن تزيد على (40) بالمائة في أحسن الأحوال، فإنّ هذه النسبة الأخيرة ستبقى مقبولة ومرضية جداً، وتشكل بداية مشجعة، غير أنّ الحديث بلهجة لا تخلو من التفاؤل، يعني أنّ الوصول إلى نتائج وحصاد إيجابي يستوجب بالمقابل حضور استحقاقات ما زالت غائبة عن أذهان الكثيرين. وخاصة عن الذين تناط بهم مسؤولية ملاحقة المخالفين، فالأمر الذي يستفسر عنه الجميع ولم يلق إجابة وافية حتى الآن.. من هي المرجعيات التي ستقوم بمتابعة تطبيق المرسوم.. فهل ستكون اللجان تابعة لوزارة الصحة أم الإدارة المحلية أم الداخلية.. أم كل هذه المرجعيات؟!
حقيقة، أنّه ورغم دخول القانون حيِّز التنفيذ، فليس هناك ما يشير في الأفق إلى حضور الجدية لجهة الاستعدادات التي يفترض أن تكون بكامل الجهوزية، فالكل يعلم أنّ القانون صدر بتاريخ 21/10/2009، أي الفترة الزمنية الفاصلة بين الصدور والدخول حيزّ التنفيذ، هي أكثر من كافية، وحين نشير إلى ضرورة حضور الاستعدادات، فنحن في هذا الجانب لا نقصد، أن تبادر المؤسسات والشركات العامة والخاصة بطباعة "البوسترات" والإعلانات الورقية واتصالها على بوابات ومداخل هذه المؤسسات، وكذلك لا نعني إعادة إنتاج بعض العبارات التي تحذر من التدخين وتبيّن مضاره، وإنما المطلوب، صوغ برامج توعية تقوم على عاتق كل ما له علاقة بالمنابر الإعلامية مقروءة ومسموعة ومكتوبة، إلى جانب استنفار جهود وزارة الصحة ومديرياتها، وأيضاً المنظمات والنقابات، وحتى الجمعيات الأهلية. وعلى أن تكون برامج التوعية صادرة عن أطباء مختصين وتربويين بمقدورهم التوجه إلى كل شريحة اجتماعية وفقاً للطرائق والأساليب التي يمكن من خلالها إقناعهم بمضار التدخين وآليات الإقلاع عنه، وكذلك التركيز على ما يتركه التدخين السلبي من مضار، بهذا المعنى، أن كل شريحة بحاجة إلى برامج توعية خاصة بها، فالتوجه إلى الصغار يختلف كلياً عن أساليب التوجه إلى اليافعين والكبار، وكذلك التخاطب مع شريحة الأميين ليس بذات الطريقة التي يتم فيها التوجه للمتعلمين والمثقفين.
لنعترف، أنه وإلى الآن ما زالت حملات التوعية تقليدية جداً وأقل بكثير من المأمول، وبسبب تواضعها و(هزالتها)- حسب تعبير البعض-، فإنَّ هناك من يبحر في التشاؤم ويأخذه الاعتقاد إلى حدود الحسم، بأنّ التطبيق على أرض الواقع خلال الشهور الأولى سوف يكون نسخة (فوتوكوبي) لحملة التوعية القاصرة، والمصير الذي سيلقاه المرسوم (62) قد لا يكون أفضل حالاً من تجارب مماثلة أقدمت عليها المرجعيات الرسمية وبقيت مجرد دروس لا تحتذى. ولعلّ من بين هذه المحطات التي يمكن التذكير بها بشيء من العجالة هي الشكل الآتي: في العام 1996 صدر المرسوم رقم (13) الذي يمنع الإعلان عن التبغ في سورية تحت طائلة السجن من (4-6) أشهر مع الغرامة المالية، ولكن بقي هذا المرسوم بلا حصاد ولا نتائج.. وأيضاً صدر في العام 2004 القرار الحكومي الذي يمنع التدخين في مقاهي "الانترنت" وكذلك بقي هذا القرار مجرد حبر على ورق.. وفي العام 2006 صدر القرار الوزاري من وزارة الإدارة المحلية بوضع لافتة بارزة تمنع التدخين في وسائط النقل العام والمصاعد ودور السينما والمراكز الثقافية والحدائق والغابات.. وهذا الأخير بقي مثل سواه من الإجراءات بمنأى عن الاهتمام والتطبيق..،.. غير أنّ اليوم الكل يأمل أن لا يلقى المرسوم (62) ذات المصير، وهذه الآمال تتكئ على حقائق ربمّا لم تكن معلومة من قبل، وهي -أي الحقائق- تتكئ على لغة الأرقام الرسمية التي لا تقبل التأويل، ومن هذه الأرقام – على سبيل المثال-، أن نسبة المدخنين الذين يدرجون ضمن الفئة العمرية التي تجاوزت سن (18) عاماً، وصلت إلى حدود (50) بالمائة، وفي حال العودة إلى الأرقام التي تشير أنَّ الذين ينتمون إلى هذه الفئة العمرية يزيد على (10) ملايين نسمة، فذلك يعني، أنّ هناك خمسة ملايين مدخن، هذا عدا عن المدخنين السلبيين الذين يقدر عددهم بأكثر من (50) بالمائة من السكان.
ولأنّ التدخين "آفة" يتعين استئصالها، وسبق للأبحاث العلمية والطبية أن أكدت، بأن التبغ يسبب أمراض القلب والسرطانات وأمراض الجهاز التنفسي، فقد بدأنا نتلمس ولأوّل مرة، دعوات جادة من جانب الرأي العام، تشجع الحكومة على رفع أسعار كل أصناف وأنواع التبغ المحلي والأجنبي...، والاعتقاد السائد، أنّه يفترض بالمرجعيات الرسمية، الأخذ بمثل هذا الإجراء على محمل الجد، كونه يشكل طريقة فعَّالة في التضييق على المدخنين، ولكن على أن يتم التدرج في رفع الأسعار ضمن حدود منطقية من شأنها جعل المدخنين يحسبون ألف حساب قبل الإقدام على شراء علبة سجائر، ولا ننسى أنّ هذا الإجراء أخذت به معظم الحكومات في البلدان المتقدمة منذ الربع الأخير من القرن الماضي، وكان قد أكد جدواه مع مرور الزمن، وعن إحصائيات عالمية تشير، أنّ الإقبال على التدخين يتزايد في البلدان التي تقوم بتسويقه بأسعار بخسة ورخيصة،.. وبالمناسبة، فإنّ إجمالي ما ينفق على التدخين من جانب المدخنين في سورية يقدر بأكثر من (26) مليار ليرة سنوياً، أي كل مدخن ينفق سنوياً نحو (8) بالمائة من دخله الشهري. وفي حال إنفاق الفاتورة العملاقة التي أتينا على ذكرها، فقط على شراء المنتجات الغذائية، فذلك سيعني أن الواقع الصحي للسكان سيكون في أفضل حال.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)