خطبة صلاة الجمعة 6/4/2012 للشيخ الطبيب محمَّد خير الشَّعَّال, في جامع أنس بن مالك، المالكي، دمشق
(كيف نختلف)
الحمد لله، الحمد لله ثمَّ الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعين به ونستهديه ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خيرُ نبي اجتباه، هدىً ورحمةً للعالمين أرسله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدِّين كلِّه ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره من كره، اللَّهم صلِّ على سيِّدنا محمَّد وعلى أله وصحبه وسلِّم.
أمَّا بعد:
عباد الله، أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله تعالى وأحثكم وإيَّاي على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير:
يقول الله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:92-94].
وقال الله تعالى:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:52-53].
وقال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].
أيها الإخوة:
يتحاور في مجريات الأحداث هذه الأيام الأب مع ابنه، أو الأخ مع أخيه، أو الصاحب مع صاحبه، وربما اتفقوا، ولعلهم اختلفوا في تقييمهم لما يجري، أو تصويبهم لما يقال، أو تَخطِئتهم لما يُعْلَن ويُذَاع، وحين يتَّفِقُون يسود جوٌّ من السكون ونوعٌ من الرضا، ولكن حين يختلفون ترتفع الأصوات، وتنتفخ الأوداج، وتَحمرّ الحَدَق، وربما تكلَّم امرؤ منهم بكلام غير مرضي، وربما سلك سلوكاً غير شرعي.
ومع كثرة الاختلاف فيما بين الإخوة والأبناء، أو الجوار والأصدقاء، أو العمال والشركاء.. أحببتُ أن أخطب اليوم خطبة عنوانها:
أضمّنها مقدمة وفقرتين؛ فقرة تتحدث عن ثلاث سلبيات لتعاملنا مع الاختلاف، وفقرة تتحدث عن ثلاثة آداب للاختلاف.(كيف نختلف؟)
أما المقدمة فأقول فيها:
إن الاختلاف بين البشر جزء من طبيعة الحياة، وسنَّة ماضية فيها، فلا يَتَبرّمنّ امرؤ من الخلاف، ولا ينتظرنّ ذهابه؛ لأنه بذلك ينتظر ما لا يأتي ولا يكون، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118-119]
والخلاف ليس شرَّاً كلّه، وما كان شرَّاً فيمكن تقليله وإطفاء ناره إن تعلَّمنا آداب الاختلاف وطرق إدارته، ليتحول الاختلاف في المباحات والاجتهادات إلى تكامل لا إلى تقاتل.
يقول أحد المفكرين: (إننا بحاجة إلى تدريس أدب الاختلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا، وتدريب الشباب والفتيات على ممارسته عملياً ليتحول إلى عادة وعبادة.
إن أدب الخلاف مهمٌّ يحتاج إليه الحاكم ليحفظ حقوق رعيته، حتى ممَّن يختلفون معه كما حفظ النبي صلى الله عليه وسلم حقوق الناس كلّهم فحفظ حقوق المخالفين بالمدينة من اليهود والمنافقين.
وأدب الخلاف يحتاج إليه العالم ليحفظ حقوق الطلاب، ويعدل بينهم ويحسن الظن باعتراضاتهم، ليربيهم على المسؤولية المستقلة، وعدم الذوبان في شخصية الشيخ؛ ليُخرج لنا سادة نبلاء نجباء، لا مقلدين ضعفاء.
وأدب الخلاف يحتاج إليه الأب تحبُّباً إلى أولاده، وعذراً لهم فيما خالفوه فيه وإدراكاً أنهم صغار قومٍ كبارُ قومٍ آخرين )
وهكذا فالحاجة إلى أدب الخلاف حاجة عامة يحتاجها الناس كلّهم في الأوقات كلها.
هذه هي المقدمة، أما الفقرة الأولى: فتتحدث عن ثلاث سلبيات لتعاملنا مع الاختلاف.
فأقول:
إن معرفة المرء عيوبه نافعة في معالجتها؛ إذ تشخيص المرض نصف العلاج.
ولئن كنتَ تطّلع في صحائف الإنترنيت أو في مواقع التواصل الاجتماعي أو في شاشات الفضاء أو في المجالس العامة والخاصة على حوارات يقع فيها اختلاف بين المتحاورين الأحبَّة، فتلحَظ عدداً من السلبيات، فإن وقت الخطبة يسمح أن أضعَ بين أيديكم ثلاثاً منها، علّنا نجتنبها، وننصح مَن حولَنا باجتنابها.
· السلبية الأولى: إن لم تكن معي فأنت ضدي:
لا يستقيم عندما تختلف مع أحد في دائرة المباحات والاجتهادات أن تجعلَه عدواً لأنه لم يرض كلامك، ولم يَقنع باجتهادك، ولم يَسْتَسِغ موقفك.
والعاقل هو الذي يحوّل العدو صديقاً لا العكس، وتقسيم الناس إلى خائن وأمين، رأسمالي واشتراكي، معارض وموالي، ويميني ويساري، ومخلص ومأجور... ومن لم يكن من الأول برأيك فهو من الثاني غير صحيح، وغير مرضي، وواحد من سلبياتنا عندما نختلف.
اختلف سيدنا عمر مع أبي بكر -رضي الله عنهما- في مبدأ مسألة جمع القرآن، وما كان ضدَّه.
واختلف سيدنا عليّ مع أبي بكر -رضي الله عنهما- في مسألة الخلافة، وما كان ضدَّه.
واختلف عمر مع خالد -رضي الله عنهما- وما كان ضدَّه.
واختلف أبو ذر مع عدد من الصاحبة -رضي الله عنهم- وما كان ضدَّهم.
ويختلف العلماء كثيراً في مسائل اجتهادية ولا يكونون متضادّين.
فمَن لم يكن معك فليس ضدك بإطلاق، بل ربما كان ممن يحبّك ويحب الخير لك، ولكنه لم يقتنع بقولك أو بعمَلك وأدائك.
وهذه واحدة من سلبياتنا في تعاملنا مع الاختلاف.
· السلبية الثانية: الخلط بين الموضوع والشخص.
فإذا ما قال قائل قولاً لا يرضينا أو وقف موقفاً لا يؤيدنا ذهبنا نبحث عن سيرته، وننبش في تاريخه عن طعون وَهَنات، وعن مثالب وخطيئات، ننعته بها في المجالس وفي الإعلام العام والخاص، فتتحول كثير من ساحات الحوار إلى مواقع للفضائح والاتهامات والغيبة والنميمة وإشاعة السوء.
فيضيع صوت العقل بين صيحات الهوى، ويخفت ضوء الحكمة وراء سحب الأضغان، ولا يصل المختلفون إلى حقائق مغنية في موضوع اختلافهم، وإنما يتيهون في الطعن ببعضهم.
هذه السلبية الثانية في تعاملنا مع الاختلاف.
· السلبية الثالثة: تدني لغة الحوار.
إنكم تقرؤون -أيها الإخوة- في المواقع الإلكترونية حيناً وتسمعون في بعض الإذاعات أو الأقنية الفضائية حيناً آخر كلاماً دنياً في أثناء الحوار، أو عبارات بذيئة، أو وصفاً ممتهناً، وإن من عيب المرء الرفيع أن ينطق بالكلام الوضيع، وإن السبّ واللَّعن والطَّعن ليس من صفات الصالحين، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم طعَّاناً ولا لعَّاناً ولا صخَّاباً في الأسواق، وروى البيهقي في سننه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أثقل شيء في الميزان خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء)). وفي مصنف ابن أبي شيبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحبُّ الحييَّ العفيف الحليم، ويُبغِض الفاحش البذيء)).
أيها الإخوة:
(من ليس معي فهو ضدي)، و(الخلط بين الموضوع والشخص)، و(تدني لغة الحوار) ثلاثة من سلبياتنا عندما نختلف.
أما الفقرة الثالثة الأخيرة في خطبة اليوم فثلاثة آداب للاختلاف.
· الأدب الأول: الإنصاف.
فإذا اختلفتَ مع القريب أو البعيد، مع الصديق أو الغريب، فكن منصِفاً عادلاً صادقاً، ولا يحملنَّك بُغضه إلى ظلمه؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة:8]
روى البخاري عن عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: (ثلاث مَن جَمعَهنَّ فقد جَمَع الإيمان: الإنصافُ من نفسك، وبذلُ السلام للعالم، والإنفاقُ من الإقتار).
سأل الإمام أحمد بن حنبل بعضَ الطلبة: من أين أقبَلتم؟ قالوا: من مجلس أبي كُرَيْب -وكان أبو كُرَيْب محمد بن العلاء ينتقد الإمام أحمد في مسائل وينال منه-، فقال أحمد: اكتبوا عنه، فإنه شيخٌ صالح. فقالوا إنه يطعن عليك، قال: فأي شيء حيلتي، شيخ صالح قد بُلِي بي.
· الأدب الثاني: عدم التعصب.
سواء كان التعصب لمذهب أو لرجل أو لطائفة أو لحزب؛ لأن المتعصّب أعمى، لا يعرف أعلى الوادي من أسفله؛ إذ الحب يعمي ويصم.
وقد يتحول المتعصب بالحرارة نفسها والقوة نفسها مِن مُحِبّ إلى مُبغِض، فيؤذي أكثر مما ينفع. فلا هو في الحب نَفَع، ولا هو في البغض عَدَل.
عن علي رضي الله عنه قال -ويروى مرفوعاً- ((أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بَغيضك يوماً ما، وأبغض بَغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبيك يوماً ما)) [الترمذي].
ومن الخطأ أن تُختَصَر أمةُ الحق في مذهب، أو أن تُختَزَل في رجل، أو أن تُحشَر في حزب أو جماعة، بل الخير موجود في أمة الحق جميعها، والتعصّب لبعضها دون بعض ليس من الصواب في شيء. بل هو مما يؤجّج الأحقاد ويزيد الضغائن، ويحوّل المختلفين إلى متقاتلين، وتقودهم أحقادهم ويدفعهم عمى تعصبهم.
· الأدب الثالث: استعمال الصبر والرفق ما دام ذلك ممكناً.
أيها الإخوة:
هذه هي خطبة اليوم (كيف نختلف)، جاءتكم في مقدمة وفقرتين؛ الأولى: ثلاث سلبيات لتعاملنا مع الاختلاف، والثانية: ثلاثة آداب للاختلاف.
ولئن كنّا اليوم مختلفين بآرائنا فإننا بحاجة إلى وحدة الصف لا وحدة الرأي، وبحاجة إلى وحدة القلوب لا وحدة العقول، وحدة القلوب التي تحفظ البلد من التشرذم، ووحدة الصفّ التي تحفظ الحقوق لأصحابها، وتمنع الاعتداء والطغيان.
اللهم اجمع على الهدى أمرنا، واجعل التقوى زادنا، والجنة مأوانا ومآبنا.والحمد لله ربِّ العالمين
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)