في 21 آذار عام 1923م كان الشعر على موعدٍ مع " نزار توفيق قباني آقبيق " وبين أزقتها العتيقة وداخل بيوتها القديمة حيث شذى الياسمين الدمشقي يفوح من قصائده يعرّش على جسد امرأة فيحمل همّ القضية.

( كلمة " آقبيق" باللغة التركية , "آق" تعني الأبيض و "بيق" يعني الشارب" )
يحلّقُ نزار في أول قصائده عام1939م "حنين إلى دمشق" , ولعلّ حسّه الإبداعي كان مستقى من رائد المسرح العربي " أبو خليل القباني" عمه "عم أبيه".
فمن جامعة دمشق كلية الحقوق عام 1945م تبدأ الرحلة إلى عدة عواصم : القاهرة , أنقرة , لندن , بكين , مدريد ...
ليكون سفير سياسةٍ وسفير شعرٍ قبل أن يسدل الستار أمام حياته السياسية مقدماً استقالته عام 1966م مؤسساً داراً للنشر في بيروت حملت اسمه , ليطير بحريّةٍ والتزامٍ في عالم الشعر.



نزار وعمره سنتان 1925م نزار من جهة اليسار مع العائلة القبانية


نزار يقول : نهداك صنمان عاجيان

يطلق رصاصته الأولى في أول دواوينه " قالت لي السمراء " عام 1944م وسط حملة مذعورة قادتها مجلة "الرسالة" المصرية بقلم الشيخ علي الطنطاوي قائلا :
"طبع في دمشق كتاب صغير زاهي الغلاف... معقود عليه شريط أحمر كالذي أوجب الفرنسيون أول عهدهم باحتلالهم الشام فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد إذا قسناها بالسنتيمترات يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق والقارح , والبغي المتمرس وصفاً واقعياً لا خيال فيه ،لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال ، بل هو مدلل , غني عزيز على أبويه ، وهو طالب في مدرسة.." .


فكان ردّ نزار على الطنطاوي جريئاً جاء فيه :
" لم يكن نقداً بالمعنى الحضاري للنقد، وإنما كان صراخ رجل اشتعلت في ثيابه النار."
ويصف نزار ديوانه "" قالت لي السمراء"" بأنه أزهار الشر بالنسبة لدمشق مثل بودلير بالنسبة لباريس.


" ديوان قالت لي السمراء – أفيقي "

أفيقي .. من الليلة الشاعله ... وردي عباءتك المائله
سيفضح شهوتك السافله ... مغامرة النهد.. ردي الغطاء
وأين ثيابك بعثرتها ... لدى ساعة اللذة الهائله
كما تنفخ الحية الصائله ... وأقبلت الساعة العاقله
هو الطين.. ليس لطينٍ بقاءٌ ... لقد غمر الفجر نهديك ضوءاً
ستمضي الشهور .. وينمو الجنين
هو الطين .. ليس لطينٍ بقاءٌ
ولذاته ومضةٌ زائله...



" ديوان قالت لي السمراء – نهداكِ "


سمــراءُ .. صبي نهدك الأسمرَ في دنيـا فمــي
نهـداكِ نبعَا لـذة حمــراء تشعـل لي دمـــي
متمردان على الســماء , على القميص المنعــم
صنمان ِ عاجيان ِ ... قد ماجا ببحـر ٍ مضـــرم
صنمان .. إني أعبـــدُ الأصنامَ رغم تـــأثمي
فكي الغلالة .. واحسـري عن نهدك المتضـــرم



نزار عندما كان طالباً في الجامعة




جريمة ذبح من الوريد إلى الوريد :

في عام 1948م أصدر ديوانه الثاني "طفولة نهد" الذي تعرّض للذبح من الوريد إلى الوريد حيث كان الشاعر قد قدّم الديوان لكلّ من توفيق الحكيم من روّاد الرواية والمسرح العربي , وكامل الشناوي الصحفي والشاعر , وأنور المعداوي الناقد الأدبي .

فكتب المعداوي مقالاً نقدياً وعرضه على صاحب "مجلة الرسالة" المصرية أحمد حسن الزيّات فلم يستسغ الأخير هذه التسمية " طفولة نهد " فنشر الزيّات نقد المعداوي بعد أن غيّر اسم الديوان إلى "طفولة نهر" .

حينها قال نزار: " بذلك أرضى حسن الزيات صديقه الناقد أنور المعداوي وأرضى قرّاء الرسالة المحافظين الذين تخيفهم كلمة النهد وتزلزل وقارهم , ولكنّه ذبح اسم كتابي الجميلِ من الوريد إلى الوريد " .

وفي عام 1949 صدر له ديوان "سامبا" .

" من ديوان طفولة نهد – وشوشة "

في ثغرها ابتهالْ ... يهمسُ لي : تعالْ
إلى انعتاق ٍ أزرق ٍ ... حدودهُ المحالُ
نشردُ تيّاري شَذا ... لم يخفقا ببالْ
لا تستحي..فالورد في ... طريقنا تلالْ
ما دمتِ لي.. مالي وما ... قيلَ , وما يُقال..
وشوشة ٌ كريمة ٌ ... سخيّة ُ الظلالْ
رغبة ٌ مبحوحة ٌ
أرى لها خيالْ





نزار في المرحلة الدبلوماسية بين عامي 1945م و 1966م


أعضاء في مجلس النواب السوري يطالبون بشنق نزار :

ولأنّ الكلمة أنثى والقصيدة أنثى يعلن الشاعر ثورته المتمردة لينشر قصيدته "خبز وحشيش وقمر" 1954م التي رسم ملامحها في ديوان قصائد 1956م فأحدثت ضجة عارمة في الرأي العام تناقلتها الصحف السورية لتستقرّ قي قبة المجلس النيابي السوري في 14/6/1955م فكانت مسار جدلٍ وصلت إلى حدّ المطالبة بشنق " نزار" وكان حينها يشغل منصباً دبلوماسياً في السفارة السورية في لندن .

وأمام تصميم النواب على معاقبة القباني تثار القصيدة من جديد في مكتب الرئيس خالد العظم بوزارة الخارجية الذي علّق قائلاً : "ياحضرات النواب الأعزاء أحب أن أصارحكم إنّ وزارة الخارجية السورية فيها نزاران : نزار قباني الموظف ونزار قباني الشاعر , أما نزار قباني الموظف فملفه أمامي وهو ملف جيد ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة , أما نزار قباني الشاعر, فقد خلقه الله شاعراً , وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه ، ولا على شعره , فإذا كنتم تقولون إنه هجاكم بقصيدة فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة " .

والجدير بالذكر أن "خبز وحشيش وقمر" هي من بين 17 قصيدة صدرت عن دار نشر بيبلوس كونسالتينج بموسكو مترجمة إلى الروسية عن د. يفجيني دياكونوف.

" من قصيدة خبز وحشيش وقمر "

في ليالي الشرقِ لمّا
يبلغُ البدرُ تمامهْ ...
يتعرّى الشرقُ من كلِّ كرامهْ
ونضالِ ...
فالملايينُ التي تركضُ من غيرِ نعالِ...
والتي تؤمنُ في أربعِ زوجاتٍ ...
وفي يومِ القيامهْ ...
الملايين التي لا تلتقي بالخبز..
إلا في الخيال..



عندما يحرك نزار يديه تتساقط الكلمات


الرئيس جمال عبد الناصر ينقذ نزار قباني من عبوة ناسفة تمّ تفجيرها :

القباني لا يستسلم ويولد لنا ديوان "حبيبتي" 1961م لتتحول اللغة إلى لوحة فسفسائية تبقى مفرداتها المرأة .
والياسمينة الدمشقية في ديوان " الرسم بالكلمات " 1966م .


لكنها لوحة مشاكسة تبعثرت ألوانها في قصيدة " هوامش على دفتر النكسة " التي نشرت في مجلة "الآداب" اللبنانية , فكانت عبوة ناسفة كما يصفها نزار , حيث صدر قرار بمنع تداول القصيدة , و ومنع بث قصائده المغناة في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة , واعتبار نزار من الممنوعين من دخول مصر , و صودرت المجلة ، وأحرقت أعدادها في عدد من البلدان العربية .

ولعلّ شهرة نزار السريعة آنذاك كان لها دور... , لكنْ سرعان ما أنقذته تلك الرسالة التي وجّهها إلى الرئيس جمال عبد الناصر في 30/10/1967م وبعض ما جاء فيها :

" سيادة الرئيس جمال عبد الناصر:
إذا كانت صرختي حادة وجارحة , وأنا أعترف سلفاً بأنها كذلك, فلأنّ الصرخة تكون في حجم الطعنة, ولأن النزيف بمساحة الجرح..." .
بعد ذلك تمّ إلغاء جميع التدابير التي فرضت بحقه.
فقال نزار حينها : لقد كسر الرئيس جمال عبد الناصر بموقفه الكبير جدا الخوف القائم بين الفن وبين السلطة، بين الإبداع وبين الثورة .......


وقد كتب نزار عدة قصائد مدح ورثاء للراحل جمال منها : الهرم الرابع , إليه في يوم ميلاده.

" هوامش على دفتر النكسة "

مالحةٌ في فمنا القصائد
مالحةٌ ضفائر النساء
والليل، والأستار، والمقاعد
مالحةٌ أمامنا الأشياء
يا وطني الحزين
حولتني بلحظةٍ
من شاعرٍ يكتب الحب والحنين
لشاعرٍ يكتب بالسكين